الحمد لله خلق الإنسان، علمه البيان، ونهاه عن الغيبة والنميمة والكذب والبهتان، وأحمده على ما أولاه من الفضل والإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها دخول الجنان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المؤيَّد بالمعجزات والبرهان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل الصدق والإيمان، وسلم تسليما كثيرا. أما […]
الحمد لله خلق الإنسان، علمه البيان، ونهاه عن الغيبة والنميمة والكذب والبهتان، وأحمده على ما أولاه من الفضل والإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها دخول الجنان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المؤيَّد بالمعجزات والبرهان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل الصدق والإيمان، وسلم تسليما كثيرا. أما بعد:
قال الله تعالى: “مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴿١٨﴾”(١) وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: من يضمن لي ما بين لحييه وما بين فخذيه أضمن له الجنة”(٢)
لا شك أن غاية كل مسلم في حياته هي ابتغاء مرضاة الله تعالى والنيل بجنته ورضوانه، وفي هذا المنطلق لن يألو جهدًا، والله سبحانه وتعالى قد أسبغ على الإنسان نعمه ظاهرة وباطنة ويمتحن عباده بها؛ ومن هذه النعم التي لا تعد ولل تحصى هو اللسان.
اللسان من نعم الله العظيمة ولطائف صنعه الغريبة، فإنه صغير جِرمه، عظيم طاعته وجُرمه؛ إذ لا يظهر الكفر والإيمان إلا بشهادة اللسان؛ لأن الأنسان مخير بأن يختار لنفسه الجنة بلسانه أو يختار النار.
نستطيع أن نقول: إن اللسان سلاح ذو حدّين؛ فإن استُخدم في طاعة الله كقراءة القرآن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من الأعمال الصالحة كان هذا هو المطلوب من كل مسلم، وكان هذا شكرًا لله على هذه النعمة؛ وإن استُخدم في طاعة الشيطان فالكذب والغيبة والنميمة وغير ذلك كان هذا هو المحرم على كل مسلم، وكان كفرانا لهذه النعمة العظيمة.
وآفات اللسان من أخطر الآفات على الإنسان؛ لأن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر وغير ذلك من المحرمات، ويصعب عليه التحفظ والاحتراز من حركة لسانه، حتى نرى الرجل الصالح المتقي وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يبالي بها بالا فيهوي بها في النار، وكم من رجل متورع زاهد ولسانه يقطع ويذبح في أعراض الناس ولا يبالي بما يقول؛ كما جاء في الحديث: “إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم”(٣)
والأحاديث الواردة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حفظ اللسان وفضل السكوت كثيرة لا يسعها الكتاب، فأنا أورد هنا بعض الأحاديث.
روى عبد الله بن سفيان عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله أخبرني عن الإسلام بأمر لا أسأل عنه أحدا بعدك! قال: “قل: آمنت بالله ثم استقم” قلت: فما أتقي؟ فأومأ بيده إلى لسانه.(٤)
قال عقبة بن عامر: قلت: يا رسول الله ما النجاة؟ قال: “يا عقبة! أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك”(٥)
وعن معاذ بن جبل قلت: يا رسول الله! وإنا لنؤاخَذ بما نتكلم به؟! فقال: “ثكلتك أمك معاذ! وهل يكب الناس على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟”(٦)
وقال أنس بن مالك: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه”(٧)
وعن سعيد بن جبير مرفوعا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إذا أصبح بن آدم أصبحت الأعضاء كلها تذكر اللسان. أي تقول: اتق الله فينا! فإنما نحن بك، فإنك إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا”(٨) وقال سليمان بن داوود -عليهما السلام-: “إن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب”(٩) وقال عيسى -عليه السلام-: “العبادة عشرة أجزاء، تسعة منها في الصمت وجزء في الفرار من الناس”(١٠)
وقد كان خوف الصحابة -رضي الله عنهم- والسلف الصالح من آفات اللسان عظيما؛ لهذا وردت أقوال كثيرة منهم في هذا الباب.
كان أبوبكر -رضي الله عنه- يأخذ بطرف لسانه وهو يقول: “هذا أوردني الموارد”(١١)
وهذا حبر الأمة ترجمان القرآن ومفسره ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن عباس كان يأخذ بلسانه وهو يقول: “ويحك! قل خيرا تغنم أو اسكت عن شر تسلم، وإلا فاعلم أنك ستندم. فقيل له يا ابن عباس: لم تقول هذا؟! قال: بلغني أن الإنسان أراه قال: ليس على شيء من جسده أشد حنقا أو غيظا يوم القيامة -لعله قال: منه- على لسانه، إلا قال به خيرًا أو أملى به خيرًا”
وقال موسى بن سعيد: لما أصيب الحسين بن علي -رضي الله عنهما- يعني قُتل، فقال رجل من أصحاب الربيع: إن تكلم الربيع فاليوم يتكلم، فجاء حتى فتح الباب وأخبره بأن الحسين قد قُتل، فقال: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴿٤٦﴾ ولم يزد شيئًا.(١٤)
والأحاديث والآثار الواردة بنحو ما ذكرت كثيرة وفيما أشرت إليه كفاية.
وهكذا كان عمل الصحابة والسلف الصالح أنهم كانوا يتكلفون لحفظ اللسان ويحاسبون أنفسهم في الدنيا، وهكذا ينبغي للمسلم أن يحاسب نفسه في الدنيا قبل أن تحاسب في الآخرة، لأن حساب الدنيا أيسر من حساب الآخرة، وحفظ اللسان في الدنيا أيسر من ندامة الآخرة، لأن في السكوت سلامة والسلامة لا يعادلها شيء. ففي ال
صحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت”(١٦)
وروى عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “من صمت نجا”(١٧)
وسئل بعضهم: كم وجدت في ابن آدم من العيوب: فقال: هي أكثر من أن تحصى، والذي أحصيتُ ثمانية آلاف عيب، ووجدت خصلة إن استعملها سترت العيوب كلها، وهي حفظ اللسان”(١٨)
ولله در الشاعر حيث أنشد:
العلم زين والسكوت سلامة…فإذا نطقت فلا تكن مكثارا
ما إن ندمت على سكوتي مرة…فلقد ندمت على الكلام مرارا
١- سورة ق
٢- صحيح البخاري/كتاب الرقاق/باب حفظ اللسان/حديث٦٤٧٤
٣- صحيح البخاري/كتاب الرقاق/باب حفظ اللسان/حديث٦٤٧٨
٤- سنن الترمذي/كتاب الزهد/باب ما جاء في حفظ اللسان/حديث٢٤١٠
٥- سنن الترمذي/كتاب الزهد/باب ما جاء في حفظ اللسان/حديث٢٤٠٦
٦-مسند أحمد بن حنبل -رحمه الله-/حديث٢٢٠٦٨
٧- مسند أحمد بن حنبل -رحمه الله-/حديث١٣٠٤٨
٨- سنن الترمذي/كتاب الزهد/باب ما جاء في حفظ اللسان/حديث٢٤٠٧
٩- إحياء علوم الدين للغزالي/كتاب آفة اللسان، ٣/١٤٩
١٠- المصدر السابق
١١- المنتظم
١٢- تاريخ دمشق
١٣- تنبيه الغافلين لأبي الليث السمرقندي، باب حفظ اللسان
١٤ و ١٥ المصدر السابق
١٦- صحيح مسلم/حديث٤٧/كتاب الإيمان/باب الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت إلا عن الخير
١٧- سنن الترمذي ومسند أحمد
١٨- الكبائر للذهبي
سليم رحماني