حديثي في هذا المقال يرتبط بقلق شغل بالي وبال الكثيرين من المتألمين منذ سنوات وهو تنزل مقام العلماء عند الناس واحتقارهم في الأعين في هذه الآونة الأخيرة، والأسباب المؤدية إلى هذه الرزية والنكبة الدينية والتخلص منها. يعرف المتأمل في التاريخ الإسلامي أن العلماء منذ عهد النبوة إلى عهدنا هذا كانوا قواد الثورات الإيمانية والأخلاقية والسياسية، […]

حديثي في هذا المقال يرتبط بقلق شغل بالي وبال الكثيرين من المتألمين منذ سنوات وهو تنزل مقام العلماء عند الناس واحتقارهم في الأعين في هذه الآونة الأخيرة، والأسباب المؤدية إلى هذه الرزية والنكبة الدينية والتخلص منها.
يعرف المتأمل في التاريخ الإسلامي أن العلماء منذ عهد النبوة إلى عهدنا هذا كانوا قواد الثورات الإيمانية والأخلاقية والسياسية، ولهم النصيب الأوفر والقدح المعلّى في ذلك، وكانوا أمناء الناس، وموضع الثقة، وموئلهم في جميع القضايا، وقد أكرمهم الله بعلو المنزلة والمقام الرفيع ما لا يكون للملوك والسلاطين وملأهم، يحسدهم الأغنياء وأصحاب الرئاسات في القبائل والشعوب، وقد تطمح النفوس أن يكون ابنهم عالمًا أو متعلما عند عالم، وحسبك في هذا الصدد حكاية أولاد هارون الرشيد -وهو من أقوى ملوك الأرض في زمنه- مع إمام دار الهجرة الإمام مالك -رحمه الله- إذ قال لهارون بعد طلبِه أن يأتي الإمام مالك إلى دار الخلافة لتعليم أولاده: «العلم يؤتى ولا يأتي».
فالمعلوم الظاهر من هذه الحكاية وأمثالها أن الملوك كانوا راغبين ومباهين أن يتعلم أولادهم عند العلماء، والعلماء يبدون الاستغناء والتعفف عن بابهم، ويردون عليهم بهذه الأجوبة المستشعرة بالإيمان، المليئة بالغيرة احتفاظًا بكرامة علم الدين.
وقد حكى برهان الدين الزرنوجي -رحمه الله- في كتابه «تعليم المتعلم طريق التعلم» قصة أخرى تدفع القارئ إلى العجب والتأمل، وهي أن الخليفة هارون الرشيد بعث ابنه إلى الأصمعي ليعلّمه العلم والأدب، فرآه يومًا يتوضأ ويغسل رجله، وابن الخليفة يصب الماء على رجله، فعاقب هارون الرشيد الأصمعي في ذلك بقوله: «إنما بعثته لتعلّمه وتؤدّبه، فلماذا لم تأمره بأن يصب الماء بإحدى يديه ويغسل بالأخرى رجلك؟! (تعليم المتعلم، صفحة ٢٢)
والفضل في ذلك يعود إلى الأصمعي -رحمه الله- إذ احتل هذه المكانة المرموقة بعلمه وعمله وتقواه، واستمال قلب الخليفة ليماثله أبناءُه.
وقد أورد إبراهيم زنكنة في حياة مولانا «أبي بكر التايبادي» -رحمه الله- قصة طريفة من لقاءه مع الأمير تيمور الأعرج الكوركاني في عام ٧٧٢ هـ.ق إذ وقف جيوشه خارج تايباد واستدعاه للزيارة، فأجابه بكلمة مليئة بغنى النفس وعدم المبالاة بأمر الحكام الجبابرة وسطوتهم قائلا: «لا حاجة للفقير بالأمير»، وفورَ استماع هذه الكلمة أتاه الأمير تيمور الكوركاني بنفسه ونصحه أبو بكر التايبادي بنصائح منها: لو لم تعدل بين العباد لسلّط الله عليك الآخر، فقال الأمير تيمور بعد هذه الزيارة: «لم أزر من جالسي الزاوية أحدًا إلا وارتعدت فرائصه وارتعدت منه» ثم اتجه نحو هرات. (تاريخ تايباد ورجالها، صفحة ١٦٧ و١٦٨).
قال العلامة الندوي -رحمه الله- في كتابه القيّم «الأركان الأربعة»: «لم يزل تاريخ الدعوة والعزيمة، وتاريخ الإيمان والعقيدة يعيد نفسه في كل عصر ومصر، فقد روى المؤلف الهندي الشيخ «محمد بن مبارك الكرماني» قصة مماثلة يقول: «طلب السلطان «محمدتغلق» الشيخ «قطب الدين المنور» -من شيوخ الهند الكبار م٧٥٧- إلى دهلي يعاتبه أو يعاقبه على عدم الحضور لتحية الملك، وقد مر بجواره، فلما حضر البلاط ودخل الديوان رأى الأمراء والوزراء والحكام ورجال البلاط واقفين سماطَين متخشعين مسلَّحين في هيئة تنخلع منها القلوب، وكان معه ولده نور الدين، وكان حديث السن لم يزر بلاط الملك في حياته ففزع لهذا المنظر الغريب وامتلأ رعبًا، فناداه أبوه الشيخ قطب الدين بصوت عال قائلا: يا ولدي العظمة لله! يقول نور الدين: إني استشعرت في نفسي قوة غريبة بعد هذا النداء، وزالت الهيبة من نفسي وذابت، وبدا الجميع عندي كأنهم قطيع من ضأن أو معز» (الأركان الأربعة صفحة ٤٠ و٤١).
ولا يقولن القائل: أين نحن من السلف؟! وقد كثرت المغريات في زمننا وبعد عهدنا عن النبوة؛ فإن لهذا الدين في كل زمن عدولًا ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، فإن شئت أن تعثر على ذلك فطالع كتاب السيد عبد الماجد الغوري وكتاب عبد اللطيف النارويي في حياة العلامة الندوي -رحمه الله- لقاءاته وزياراته مع الملوك، وصدعه بالحق، وتعففه عن الأموال والمناصب يُملأ قلبك بشارة وإيمانا. منها: «إن جنرال «ضياء الحق» أهدى للإمام مائة ألف روبية، لكنه أهدى نصفه لزوجة الشيخ سليمان الندوي ونصفه الآخر لدار المصنفين ورفض أن يستفيد من المبلغ لنفسه».
قال بلال عبد الحي الحسني: «أهدى رجل من محبي الإمام الندوي له سيارة غالية قبل وفاته بعام، لكنه امتنع عن القبول، فبكى الرجل، فقبلها الإمام الندوي تسلية لنفسه وجبرًا لخاطره، ثم قال بعد لحظات: أهديها لك فتقبل مني!»
«وفي عام ١٤١٧ هـ.ق خُصّص له جائزة حاكم دبي بمبلغ يساوي مليون درهم لكنه أبى عن قبوله ووقفه لتعليم الدين في الساعة» (السيد أبو الحسن الندوي -رحمه الله- إمام الدعوة والإصلاح)
وهكذا رفض الهدايا المالية للملك عبد الله بن حسين الأردني وملك فيصل السعودي، ويأبى أن يُضاف في الفنادق، وينزل ببيوت أصدقائه والمساجد، ويعتزل عن الأموال، ويتعفف.
وكتب التراجم تزخر بهذه الحكايات والقصص البطولية والرجولية والذب عن كرامة الدين، ما يقف الدارس أمامها مشدوها ويتساءل نفسه: ما هي الأسباب التي خضعت لهم الرقاب وانقادت لهم القلوب بسببها، واستطاعوا أن يؤدوا رسالتهم أمام الطغاة والجبابرة شأن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-؟!
وهذا هو الموضوع المعني به في هذا المقال ونحاول البحث عنه.
يعلم الباحث المتأمل الممعن للنظر أن العلماء الربانيين يتفقون على سمات وميزات جعلتهم ممتازين، وشقّت لهم الطريق فكانوا خلفاء الأنبياء بحق، وساروا على دربهم، وانتهجوا بمنهجهم.
الميزة الأولى التي امتاز بها هؤلاء هي الإيمان بالله وبصفاته، والتوكل عليه في السراء والضراء، والعسر واليسر، والفقر والغنى، ولم يكونوا يرون لله ولنصره عديلًا ولا عوضًا، ولا يلتفتون يمنة ويسرة، فكان هذا نتيجة تأملاتهم في القرآن، وصلتهم الوثيقة به، وتلاوته آناء الليل وأطراف النهار بالخشوع والتدبر.
الميزة الثانية التي رفعت قدرهم، وأعلت منزلتهم، فصارت كلمتهم مسموعة وإشارتهم طوعا هي التعفف والاستغناء عن الأموال والمناصب إذ يرددون هذا الشعار ويطبقونه عمليًّا هو: «وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ»‎. (الشعراء: ١٠٩) و»أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ». (المؤمنون: ٧٢) «اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ» ‎(يس: ٢١) والحديث النبوي: «مَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ الله»، وجعلوا العمل النبوي لأنفسهم مثالا يُقتدى به، إذ قال: «من ترك مالا فلورثته ومن ترك دينًا فإلي وعلي».
المشهود أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مقام المقتدى والداعي إلى الله خفّف أثقال الناس وأحمالهم إلى أن حرّم على نفسه وذريته أرجاس أموال الناس وهي الزكاة، وبعد تحريم الربا في أول الوهلة وضع ربا العباس وكان من أربى الناس، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «أول ربا أضعه ربا العباس» حتى لا يتردد الناس أنه يأمر بالزكاة لنفسه لذريته ولأقربائه، فيختل أمر النبوة، ويُخدش فيه، وتزول آثار الدعوة، وتكون أثرًا بعد عين، وربى جيلًا مؤمنا بالله، متوكلًا عليه، مستغنيًا عن الأموال والمناصب، لا تفزعهم مهابة الملوك، ولا تستخفّهم زهرة دنياهم، وحسبك في ذلك قصة ربعي بن عامر ومغيرة بن شعبة -رضي الله عنهم- مع رستم في خيمته المكلّلة بالجواهر، وعدم اكتراث الصحابيين بها، وأشعلا صراعًا نفسيا في قلوب الإيرانيين حتى قال رستم: «هؤلاء قوم لا قبل لنا بهم»، والصحابة كانوا بعيدين عن المدنية الزاهرة يعيشون في عزلة عن العالم المتمدن الراقي، لكنهم عند المواجهة والالتقاء به لم ترعهم هيبة الدنيا، وما مسّ قلوبهم شيء منها، وإيران قديمًا كآمريكا في الأبهة والقدرة والثروات والذخائر، وتصور لو دولارات آمريكا وثرواتها إلى قرية صغيرة عديمة الإمكانيات، فاقدة أحوج الضروريات، ماذا يحدث في القلوب؟! أهي على حالها أم تتغير؟!
فليحاسب العلماء أنفسهم، وليراجعوها، ويجعلوا الإصبع على موضع الألم!
قال الإمام الندوي -رحمه الله-في إحدى مقالاته وهو يتكلم عن سر نجاح دار العلوم ديوبند وندوة العلماء: «سر نجاح هذه المدارس -كديوبند وشقيقاتها- في أداء رسالتها ونشر الدين أنها لم تكن تنال مساعدة من الحكومة، وكانت قائمة على أساس الزهد والتضحية والجهاد، فأثار ذلك فيها روح المقاومة والجهاد وقوة العمل والنشاط» (مقالات إسلامية في الفكر والدعوة ج٢ صفحة ١٥١)
رزية إذا تحولت المدارس الدينية -وهي في الحقيقة ثكنات إيمانية، ومعاقل معنوية، وعساكر دعوية- إلى دُور الكسب، ويُنظر إليها نظرة التجار إلى السوق، يبيعون فيها بضائعهم ويربحون؛ إذا تتدلى المنزلة، ويتجرأ الناس على الطعن واللوم، وتتكثر الخصومات، وتقلّ الغيرة على الدين، تخرس الألسن وتعمى الأبصار، ويتسرب الفساد إلى القلوب، فيمحى الحق ويظهر الباطن، ولا تزال الحكومات تسعى أن تجعل أغلالا على أعناق العلماء إما بالتهديد وإما بالتطميع، وتخمد الثورات الإيمانية التي يُشعلها العلماء الربانيون ودعاة الحق، والمشكلة هي أن العلماء وهم ورثة الأنبياء وخلفاؤهم ونوّاب الدين تناسوا رسالتهم نحو الأمة، وتغاغلوا عنها، وارتضوا بالعيش، واختاروا حياة عادية كسائر الدهماء، ولم يضطلعوا بأعباء الدين، ولم يذبّوا عنه، فانخفضت المعنويات في المجتمع، وزالت القيم الخُلقية والروحية، وقل شأن أصحابها، ومن ثم سقطت منزلة العلماء؛ إذ لم يُثبتوا جدارتهم وكفاءتهم لتعليم الناس وتبليغهم، ولم يغيروا التيار اللاديني الذي يحارب الدين وعلماءه؛ فتأمل إن شئت تاريخ أوروبا في القرون الوسطى، وتنحي العلماء المسيحية عن أداء رسالتهم، وتتابع المصائب على أهل الدين، والنفرة الدينية التي سادت أوروبا.
فالمرجو أن تغير المدارس الدينية مناهجها التربوية والفكرية، وتُخرج رجالًا أكفاء يمثّلون دور العلماء الربانيين، يكون شعارهم نصرة الدين بالمال والنفس، وأن يضحوا في ذلك الغالي والنفيس حتى يحدث الله بعد ذلك أمرا.

مجتبى أمتي

  • نویسنده: مجتبى أمتي