وأصحاب أبي حنیفة مجمعون علی أنّ ضعیف الحدیث أولی عنده من القیاس؛ ولم یکتف الإمام بهذا بل إنّه صرّح : «إذا صحّ الحدیث فهو مذهبي»؛ هذه کلّها تدلّ علی شدّة أخذه بالحدیث.ولکنّ المغرضین والمعترضین علی الأحناف لا یزالون یعترضون إمّا تعصّباً وإمّا حسداً، ومن اعتراضاتهم علی مذهب الإمام أبي حنیفة رحمه الله أنّه ترک بعض […]

وأصحاب أبي حنیفة مجمعون علی أنّ ضعیف الحدیث أولی عنده من القیاس؛ ولم یکتف الإمام بهذا بل إنّه صرّح : «إذا صحّ الحدیث فهو مذهبي»؛ هذه کلّها تدلّ علی شدّة أخذه بالحدیث.
ولکنّ المغرضین والمعترضین علی الأحناف لا یزالون یعترضون إمّا تعصّباً وإمّا حسداً، ومن اعتراضاتهم علی مذهب الإمام أبي حنیفة رحمه الله أنّه ترک بعض الأحادیث الصحیحة مع قوله: إذا صحّ الحدیث فهو مذهبي، ویذکرون هذه العبارة عند عامّة الناس ویشکّکونهم في مذهبهم، والعامي الّذي لا اطلاع له بأصول الحدیث وفنّه یتردّد في أمره وهو لا یدري أنّ قول الإمام له محمل.
وهذه العجالة ردٌّ لطیف علی هؤلاء ، جمعتها من خلال نقول العلماء في الکتب، أسأل الله أن یجعلها نبراساً أمام القارئین الکرام.
هل قائل هذه الجملة الإمام أبوحنیفة رحمه الله فحسب؟
إذا استعرض الباحث یجد أنّ الإمام أباحنیفة رحمه الله لم یکن قائلاً هذه الجملة (إذا صح الحدیث فهو مذهبي) فحسب. بل الأئمّة الأربعة رحمهم الله تعالی قالوا هذه الجملة أو نحوها.
قال أبو حنیفة: إذا صح الحدیث فهو مذهبي وقال: إذا قلت قولاً وکتاب الله یخالفه، اترکوا قولي لکتاب الله، فقیل: إذا کان خبر الرسول یخالفه؟ قال: اترکوا قولي لخبر الرسول صلّی الله علیه وسلّم1.
قال مالک: إنّما أنا بشر، أخطئ وأصیب فانظروا في رأیي، کلّ ما وافق الکتاب والسنّة فخذوه وکل ما لم یوافق الکتاب والسنّة فاترکوه.2
وقال الشافعي رحمه الله تعالی: «کلّ ما قلته وکان من رسول الله صلّی الله علیه وسلّم خلاف قولي ممّا صحّ، فهو أولی ولا تقلّدوني وقال: مهما قلت من قول، أو أصّلت من أصل، فیه عن رسول الله صلّی الله علیه وسلّم خلاف ما قلت، فالقول ما قاله رسول الله صلّی الله علیه وسلّم وهو قولي»3
قال أحمد رحمه الله تعالی: «أنتم أعلم بالحدیث والرجال منّي فإذا کان الحدیث صحیحاً فأعلموني کوفیاً کان أو بصریاً أو شامیاً حتّی أذهب إلیه إن کان صحیحاً».4
وقال أحمد رحمه الله: لیس أحد إلا یؤخذ من رأیه ویترک ما خلا النبي صلی الله علیه وسلّم.
فلأجل هذا لا یکون الاعتراض علی الإمام أبي حنیفة فحسب بل علی الأئمّة الأربعة رحمهم الله تعالی.
إنّ قصد هؤلاء المعترضین من ترداد هذه الکلمة تشویش الناس، فیقول قائلهم أمام العامي: قال رسول الله صلّی الله علیه وسلّم:«لا صلاة لمن لم یقرأ بفاتحة الکتاب» وقال أبو حنیفة: المؤتمّ لا یقرأ وراء الإمام. فأیّهما نأخذ؟ بقوله صلّی الله علیه وسلّم أم بقول أبي حنیفة.
فیشوش علی العامي حتّی یظنّ أنّ المذاهب تخالف الأحادیث وأنّ المذاهب أقوال رجال لا علم لهم بالنصوص ـ والعیاذ بالله ـ مع علمهم أنّ الله تعالی أوجب علی العامي الأخذ بقول العالم من خلال قوله سبحانه:«فاسئلوا أهل الذکر إن کنتم لا تعلمون»5
قبل الخوض في شرح هذه الجملة (إذا صحّ الحدیث إلخ) لا بدّ من تقدیم مقدمة مسلّمة عند أهل العلم وهي أنّ القرآن الکریم متواتر صحیح النقل إلینا دون شک أو خطأ في الأداء، أو تغییر في اللفظ، نجد مع ذلک أن العلماء لم یأخذوا بکلّ أیة حسب ما یظهر منها في بعض الحالات، بل قالوا: في القرآن الکریم ناسخ ومنسوخ وعام ومخصص ومطلق ومقید ومجمل ومبین… وقالوا: لو أخذنا بکلّ آیة صحیحة بحسب الظاهر منها لضللنا وخرجنا عن جادة الإیمان والعلم ـ والعیاذ بالله ـ ولو اتُّبع ذلک القائل کائناً من کان، لکان القائل داعیاً إلی النار، وکان الآخذ منه من الهالکین ـ والعیاذ بالله ـ.6
قال الله تعالی في شأن الخمر: «ومن ثمرات النخیل والأعناب تتخذون منه سکراً ورزقاً حسناً» {النحل:67}
وقال جلّ جلاله: «یسئلونک عن الخمر والمیسر قل فیهما إثم کبیر ومنافع للناس وإثمهما أکبر من نفعهما» {البقرة:219}
وقال سبحانه: «یا أیها الّذین آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سکاری حتّی تعلموا ما تقولون» {النساء 43}
وقال جلّ من قائل: «یا أیها الّذین آمنوا إنّما الخمر والمیسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشیطان فاجتنبوه لعلّکم تفلحون» {المائدة:90}
إنّها آیات صادقة متواترة لا شکّ في ثبوتها وقد قال العلماء: إنّ الله تعالی تدرّج في تحریم الخمر من التنفیر في السکر حتّی تحریمه مطلقاً وعلی أيّ حال، وذلک نسخ متفق علیه بین العلماء، فمن عمل بالآیة الأولی والثانیة والثالثة دون الرابعة، فذلک ضالٌّ، خارج عن الملّة باتّفاق العلماء.7
وقال الله تعالی في شأن قبلة الصلاة: «فأینما تُولُّوا فثمّ وجه الله» {البقرة:115}
وقال جلّ جلاله: «قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ» {البقرة:144}
إنّها آیات صادقة متواترة، وقد اتفق العلماء علی أنّ من کان مقیماً وأراد الصلاة فلیس له إلا الاتّجاه إلی بیت الله الحرام، لا لأيّ جهة إلا إذا جهل القبلة أو لم یمکنه الاتّجاه إلیها لعذر من مرض أو عدوّ.8
مراد قول الأئمّة ومحمله:
قال العلّامة المحقّق الأصولي مولانا الشیخ حبیب أحمد الکیرانوي في مقدمة إعلاء السنن: «حقیقة هذه الأقوال هو إظهار الحقیقة الواقعة بأنّ الحجّة هو قول رسول الله صلّی الله علیه وسلم لا قولي، فلا تظنّوا قولي حجّة مستقلّة وأنا أبرأ إلی الله ممّا قلته خلاف رسول الله صلّی الله علیه وسلّم»9
وقال صاحب «المجموع شرح المهذّب»: هذا الّذي قاله الشافعي لیس معناه أنّ کلّ أحد رأی حدیثاً صحیحاً، قال هذا مذهب الشافعي رحمه الله وعمل بظاهره، وإنّما هذا فیمن له رتبة الاجتهاد في المذهب وشرطه: أن یغلب علی ظنّه أنّ الشافعي رحمه الله لم یقف علی هذا الحدیث، ولم یعلم صحّته وهذا إنّما یکون بعد مطالعة کتب الشافعي کلّها ونحوه من کتب أصحابه الأخذین عنه وما أشبهها، وهذا شرطٌ قلّ من یتّصف به.10
وإنّما اشترطوا ما ذکرنا لأنّ الشافعي رحمه الله ترک العمل بظاهر أحادیث کثیرة رآها وعلمها ولکن قام الدلیل عنده علی طعن فیها أو نسخها، أو تخصیصها أو تأویلها أو نحو ذلک.11 وجاء في قواعد التحدیث من فنون مصطلح الحدیث في تعلیقه: «ومرادهم من قولهم هذا هو إذا صلح الحدیث للعمل به فهو مذهبي» 12 وقال العلّامة محمد زکریّا الکاندهلوي رحمه الله تعالی: ومحلّ ذلک أنّ الحدیث لم یطلع علیه الإمام، أمّا إذا عرف أنّه اطلع علیه وردّه أو تأوّله بوجه من الوجوه فلا.13
وقال العلّامة الکوثري: قول الشافعي:«إذا صح الحدیث فهو مذهبي» لیس بمعنی أنّ کلّ ما قال فیه أحد أنّه حدیث صحیح، آخذ به راجعاً عمّا قلته من قبل، بل بمعنی: أنّ الحدیث إذا صحّ بشرطه، وصحّت دلالته آخذ به، وإلا اختلط مذهبه؛ وقد أقاموا النکیر علی ابن محمد الجویني حیث حاول أن یؤلّف کتاباً یجمع فیه مسائل صحّ الحدیث فیها في نظره، عازیاً إیاها إلی الشافعي، تعویلاً منه علی هذا القول المحکي عن الشافعي، وقد استبان لأهل العلم بالحدیث أنّه کان یصحّح أحادیث غیر صحیحة ویجعل المسائل المستنبطة منها أقوال الشافعي فزجروه عن ذلک.14
وقد عدّ شیخ الإسلام ابن تیمیّة رحمه الله تعالی أسباب ترک الفقیه الحدیث؛ أذکر بعضها:
1ـ أن یکون الحدیث قد بلغه لکنّه لم یثبت عنده إمّا لأنّ محدثه أو محدث محدثه أو غیره من رجال الإسناد مجهول عنده، أو متهم، أو سيء الحفظ إلخ
2ـ معارضته بما یدلّ علی ضعفه أو نسخه أو تأویله15؛ ذکر عشرة من أسباب ترک الحدیث.
وذکر صاحب کتاب «اختلاف أمّت أور صراط مستقیم»: «ولیعلم أنّه لیس لأحد من الأئمّة المقبولین عن الأمّة قبولاً عاماً یتعمد مخالفة رسول الله صلّی الله علیه وسلّم في شيء من سننه دقیق ولا جلیل، فإنّهم متفقون اتفاقاً یقینياً علی وجوب اتباع الرسول صلّی الله علیه وسلّم وعلی أنّ کلّ أحد من الناس یؤخذ من قوله ویترک إلا رسول الله صلّی الله علیه وسلّم، ولکن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حدیث صحیح بخلافه، فلا بدّ له من عذر في ترکه.16
ثم ذکر بعض الأعذار لترک الحدیث ناقلاً عن ابن تیمیة؛ منها: عدم اعتقاد أنّ النبي صلّی الله علیه وسلّم قاله، ومنها: اعتقاده أنّ ذلک الحکم منسوخ.17
هل یمکن العمل بهذا القول لأحد؟
ولا یخفی أنّ ذلک لمن کان أهلاً للنظر في النصوص ومعرفة محکمها من منسوخها18 وجاء في المجموع شرح المهذب: وإنّما هذا فیمن له رتبة الاجتهاد في المذهب وشرطه: أن یغلب علی ظنّه أنّ الشافعي رحمه الله لم یقف علی هذا الحدیث، ولم یعلم صحّته وهذا إنّما یکون بعد مطالعة کتب الشافعي کلّها ونحوه من کتب أصحابه الآخذین عنه وما أشبهها، وهذا شرطٌ قلّ من یتّصف به.19
وذکر الشیخ العلّامة محمد رفیع العثماني في تعلیقه علی شرح عقود رسم المفتي ذیل هذه الجملة «ولا یخفی أنّ ذلک لمن کان أهلاً للنظر في النصوص إلخ» قوله: قلت لا یخفی، دفع لما یتوهّم من أنّ المقلّد العامي إذا وجد حدیثاً وزعم أنّه مخالف لقول إمامه جاز له أن یترک قوله ویعمل بالحدیث؛ وحاصل الدفع أنّه لا یجوز إلا لمجتهد في المذهب.20
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ موقف المدرسة العقلیّة من السنّة النبویة 2/124 إعداد الأمین الصادق الأمین، مکتبة الرشید
2ـ المرجع السابق 2/125
3ـ المرجع السابق، وهکذا في قواعد التحدیث في فنون مصطلح الحدیث، الإمام الشافعي کان یقول: إذا صح الحدیث فهو مذهبي471
4ـ موقف المدرسة العقلیّة من السنّة النبویة 2/125
5ـ إذا صح الحدیث فهو مذهبي ص5، لوهبي سلیمان غاوجي الألباني
6ـ المرجع السابق ص7
7ـ المرجع السابق ص8
8ـ المرجع السابق ص8
9ـ أثر الحدیث الشریف في اختلاف الأئمّة الفقهاء لمحمد عوّامة ص52
10ـ المجموع شرح المهذب للنووي1/63 دارالفکر
11ـ أثر الحدیث الشریف 45
12ـ قواعد التحدیث في فنون مصطلح الحدیث 472
13ـ أوجز المسالک إلی مؤطا الإمام مالک 1/97
14ـ قواعد التحدیث 472
15ـ مجموع الفتاوی لابن تیمیة
16ـ اختلاف أمت أور صراط مستقیم لمولانا یوسف لدهیانوی2/23
17ـ المرجع السابق ص25
18ـ حاشیة ابن عابدین 1/221 دار الثقافة والتراث
19ـ المجموع شرح المهذب للنووي 1/63
20ـ شرح عقود رسم المفتي بتحقیق الشیخ العلّامة محمد رفیع العثماني حفظه الله، مکتبة دار العلوم بکراتشي