الحمدلله الذي خلق الإنسان وعلّمه البیان وأودع أعظم آیاته باختلاف الألسنة والألوان،ثم تخیّر العربیّة من بین اللغات للقرآن وأنزله هدیً لکافّة الخلق من الإنس والجانّ، والصلاة والسلام علی من لأجله بلغت العربیّة من بین اللغات إلی الغایة القصوی وعلی آله وأصحابه الذین سادوا الی منتهی السفر و أدخلوها کل بیت مدرٍ ووبرٍ.قال الله تبارک وتعالی […]

الحمدلله الذي خلق الإنسان وعلّمه البیان وأودع أعظم آیاته باختلاف الألسنة والألوان،ثم تخیّر العربیّة من بین اللغات للقرآن وأنزله هدیً لکافّة الخلق من الإنس والجانّ، والصلاة والسلام علی من لأجله بلغت العربیّة من بین اللغات إلی الغایة القصوی وعلی آله وأصحابه الذین سادوا الی منتهی السفر و أدخلوها کل بیت مدرٍ ووبرٍ.
قال الله تبارک وتعالی : «الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان،علمه البیان» وقال أیضاً:«وهذا لسان عربیٌّ مبین».
فلما أخذت القلم لکتابة هذا الموضوع الهامّ تعطّرت ساحة فکري وخیالي وغمرنِي الحبّ والحنان الذي ینبعث من أعماق قلبي، وها هو أهمّیة اللغة العربیة التي تکون ذات کمال، وکمالها من کمال منزّلها وشارعها، الکمال الذي لا یدرکه عیب و لا تشوبه شائبة من الجهل والهوی، ولو شئنا أن نقارن اللغة العربیة بین أيّ لغة من اللغات في العالم فهیهات هیهات، فأین الثری من الثریّا.
نعم؛ إنّ اللغة العربیّة هي لغة القرآن الکریم والدین الحنیف وهي لغة التخاطب والتفاهم بین أجزاء الوطن العربي وهي الأساس الذي بني علیه التراث العربي والأدب الرفیع ولا زالت هذه اللغة تؤدّي مهمّتها بحیویّة وحرکة وتقدم منذ أکثر من ألف وأربع مائة سنة وحتی الآن وإلی ما شاء الله بسبب طبیعتها المرنة وبیانها الأخّاذ ومفرداتها الغنیة وأسالیبها المتفاوتة وخلودها في کتاب الله الذی لا یأتیه الباطل من بین یدیه ولا من خلفه.
لا یخفی علیکم أهمّیة اللغة العربیّة التي نزل بها القرآن الکریم، وتحدّث بها نبیّنا العظیم محمد صلی الله علیه وسلم، وإلیها تهفو نفس کل مسلم في مشارق الأرض ومغاربها، فهي لغة العبادة للمسلمین کافّة.
إخوتي المسلمون، أنا أرید من خلال هذه الکلمات أن أعرّفکم ببعض جوانب لغتکم لتزداد محبتکم لها وعنایتکم بها، عنایة بقول النبي صلی الله علیه وسلم:«أحبوا العرب لثلاث، لأني عربي والقرآن عربي ولسان أهل الجنة عربي» وانظروا إلی سلفکم الصالح کیف کان اهتمامهم بالعربیة، فسیدنا عمربن الخطاب رضي الله عنه یقول:«تعلموا العربیة فانها تثبت العقل وتزید المروءة» وأیضاً قال:«تعلموا العربیة فإنها من دینکم».
وقال الإمام ابن کثیر رحمه الله عند تفسیر قول الله عزّ وجلّ:«إنا أنزلناه قرآناً عربیّاً لعلّکم تعقلون» (وذلک لأن العربیة أفصح اللغات وأبینها وأوسعها، وأکثرها تأدیة للمعاني التي تقوم بالنفوس، فلهذا أنزل أشرف الکتب بأشرف اللغات علی أشرف الرسل بسفارة أشرف الملائکة، و کان في أشرف بقاع الأرض، وابتدیء إنزاله في أشرف شهور السنة، وهو رمضان، فکُمّل من کل الوجوه).
نعم، لغتکم العربیة هذه من أیسر اللغات نطقاً وتعلّماً وتعلیماً، والشاهدعلی ذلک القرآن الکریم الذي نزل بها، و جاء فیه قول ربنا تبارک وتعالی:«ولقد یسرنا القرآن للذکر فهل من مدکر».
والقرآن عربي کما تعلمون، و إذا کان القرآن میسّراً للذکر، فهذا یعني أن اللغة العربیة التي نزل بها میسّرة أیضاً، ویشهد لما أقول تاریخ العربیة في ذلک، فلقد أتقنها غیر العرب حتی أصبحوا علماءها و مراجعها الکبار.
بلغت محبة غیر العرب للّغة والعنایة بها حدّاً لا یمکن تصوره، حتی قال أبو الریحان البیروني ، وله مؤلفات باللسانین العربي و الفارسي قال:«لأن أُهجَی بالعربیة أحب إلیّ من أن أُمدح بالفارسیة» قال المستشرق الألمانی بروکلمان:« إنه بفضل القرآن الکریم بلغت اللغة العربیة من الاتساع مدی لا تکاد تعرفه أيّ لغة أخری. وقال الشیخ محمد عبده:«إن إصلاح لساننا هي الوسیلة المفردة لإصلاح عقائدنا، وجهل المسلمین بلسانهم هو الذي صدّهم عن فهم ما جاء في کتاب دینهم و أقوال أسلافهم». وقال الإمام ابن تیمیة رحمه الله:«إن اللغة العربیة من الدین ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الکتاب والسنة فرض، ولا یفهم إلا باللغة العربیة، وما لا یتمّ الواجب إلا به فهو واجب».
نعم؛ کانت اللغة العربیة من بدایة العام الثاني للهجرة حینما سیطرت المملکة الإسلامیّة من نهر سند في الشرق إلی الأندلس الإسلامي في الغرب حتی بدایة القرن العشرین المیلادي، لغة المجتمع العالمي، اللغة الفائقة الراقیة في الدعایات العالمیة التي قد فاقت جمیع اللغات حتی الإنجلیزیة والفرنسیّة واللاتینیّة والفارسیّة وغیرها من اللغات کما اعترف العالم الغربي جرج سارطون:«بأن اللغة العربیة کانت من اللغات البارزة في العالم وإحدی الوسائل الأساسیّة للثقافة في العصور الوسطی حیث نفخت في العرب الروح والحیاة». ولکن مع هذا الفضل والفضیلة والتفوّق، أصیب الأدب العربي والمجتمع الإسلامی في بدایة القرن العشرین بکارثة عظیمة وهي سقوط الخلافة الإسلامیّة، المنصب الجلیل الذي لم یزل قائماً من بعد وفاة الرسول صلی الله علیه وسلم في شکل من الأشکال وحافظ علیها الأتراک العثمانیّون وأدخلوا الرعب في قلوب الأوربیین وحافظوا علی الحرمین الشریفین وشعائر الإسلام والمسلمین وعلی تفوّق اللغة العربیّة علی اللغات کلها في الدعایات العالمیة، حتی أتت الأعداء هذا البنیان الشامخ من القواعد و دمّروه بید عمیلهم الغدار کمال آتا تورک فتکالبت الأعداء وانهارت القیم الإسلامیّة وبذلک لم تنهدم صور الأماکن المقدسة فحسب بل صور عِرضِ المسلمین وعزتهم وکرامتهم وثقافتهم وأدبهم لاسیما الأدب العربي. کما قال العلامة شبلي النعماني:«إن زوال الدولة العثمانیة في الواقع زوال ملک المسلمین وملتهم، فیا أیها الأحبّة إلی متی التفکر في البیت والأهل والبنین». نعم! بزوال الخلافة الإسلامیة کسرت شوکة المسلمین ونزل ترجمان الثقافة الإسلامیّة واللغة العربیة من مکانتها الشامخة السامیة، حتی المسلمین بأنفسهم ساعدوا هذا التیار برفع نعرات قومیة وحزبیة وجهلوا من سوء المصیر، حتی أصحاب المراکز العلمیة والثقافیة والحوزات والجامعات ترکوا الاهتمام لتعلیم هذه اللغة وترویجها علی مستوی عال وفي أسلوب قوي لائق لهذه اللغةوعکفوا علی دراسة الصرف والنحو وترکوا المحاورة والکتابة والخطابة بها، اللغة التي هي اللغة العلمیة العالمیة الإسلامیة وفیها الدراسات الإسلامیّة والبحوث العلمیّة علی مستوی أعلی وإطار أوسع. ولکن أعداء الإسلام الذین یخافون قوة الشعور الدیني الذي ینبعث من اللغة والتاریخ والثقافة، لم یقنعوا بهذه المحنة ولم یکتفوا بهذا القدر بل لقنوا جماهیر المسلمین لاسیّما طلاب الجامعات بأن ضعفهم وانحطاطهم یرجع إلی الدین والثقافة الإسلامیّة، فوجّهوا سائر طاقاتهم إلی الطعن في اللغة العربیّة الفصحی والثقافة الإسلامیة العلیا وتشویه سمعة العلماء والحطّ من شأنهم کما أخبرنا الله تعالی:«ودّ الذین کفروا لو تغفلون عن أسلحتکم و أمتعتکم فیمیلون علیکم میلة واحدة».
فالواجب إذاً علی جمیع المشتغلین بالعلم والقلم والمهتمّین بالشؤون الإسلامیّة والمتوجّعین لرزایا العالم الإسلاميّ قدیماً وحدیثاً أن یکرّسوا جمیع مواهبهم لفتح باب جدید وخطوة ناجحة لازدهار هذه اللغة بإنشاء النوادي العربیّة وإصدار مجلّات باللغة العربیّة ونفخ الحب والحنان لها بین التلامیذ والمتعلمین واتخاذ اللغة العربیّة لغة تدریس وتخاطب وتفاهم والاتّصال بالعالم العربي وعقد مؤتمرات أدبیّة لنموّ هذه اللغة وتغلغلها في أحشاء المجتمع.


دین محمد محمدآلق