قال: فجاءه إسماعیل فقال له: یا أبت من أین لک هذا؟ قال: جاءني به من لم یکلني إلی حجرک، جاء به جبریل علیه السلام.فلمّا وضع جبریل الحجر في مکانه، وبنی علیه إبراهیم، وهو حینئذ یتلألأ تلألؤاً شدیداً من شدّة بیاضه، فأضاء نوره شرقاً وغرباً ویمناً وشاماً.أمّا لونه فکان أبیض من الثلج ومن اللبن، لکن سوّدته […]
قال: فجاءه إسماعیل فقال له: یا أبت من أین لک هذا؟ قال: جاءني به من لم یکلني إلی حجرک، جاء به جبریل علیه السلام.
فلمّا وضع جبریل الحجر في مکانه، وبنی علیه إبراهیم، وهو حینئذ یتلألأ تلألؤاً شدیداً من شدّة بیاضه، فأضاء نوره شرقاً وغرباً ویمناً وشاماً.
أمّا لونه فکان أبیض من الثلج ومن اللبن، لکن سوّدته خطایا المشرکین وهو بقدر ذراع کما ورد في الأثر عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال: «کان الحجر الأسود أبیض من اللبن وکان طوله کعظم الذراع»(2).
حکمة الاسوداد وعدم زوال سواده بالحسنات:
قال المحب الطبري : قد اعترض بعض الملحدة فقال: كيف يسود الحجر خطايا أهل الشرك ولا يبيضه توحيد أهل الإيمان؟
والجواب عنه من ثلاثة أوجه:
الأول : ما تضمنه حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «أن الله عز وجل إنما طمس نوره ليستر زينته عن الظلمة»، وكأنه لما تغيرت صفته التي كانت كالزينة له بالسواد.
الثاني: أن الله تعالى أجری العادة بأن السواد يصبغ ولا ينصبغ والبياض ينصبغ ولا يصبغ.
والثالث: أن يقال بقاؤه أسود إنما كان للاعتبار، ليعلم أن الخطايا إذا أثرت في الحجر، فتأثيرها في القلوب أعظم» (3).
فضائله:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «يأتي الركن يوم القيامة أعظم من أبي قبيس، له لسان و شفتان يتكلم عمن استلمه بالنية، وهو يمين الله يصافح بها خلقه»(4).
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: «الرُّكْنُ وَالْمَقَامُ يَاقُوتَتَانِ مِنْ يَاقُوتِ الْجَنَّةِ، وَإِلَيْهَا يَصِيرَانِ، وَلَوْلَا مَا مَسَّ هَذَا الرُّكْنَ مِنَ الْأَنْجَاسِ، لَأَبْرَأَ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ»(5).
وعن وَهْب بْن مُنَبِّهٍ أَنَّ عبدالله بنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَهِيَ تَطُوفُ مَعَهُ بِالْكَعْبَةِ حِينَ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ: «لَوْلَا مَا طُبِعَ علی هَذَا الحجر یا عائشة مِنْ أَرْجَاسِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنْجَاسِهَا إِذًا لَاسْتُشْفِيَ بِهِ مِنْ كُلِّ عَاهَةٍ، وَإِذًا لَأُلْفِيَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ أَنْزَلَهُ اللهُ عزّوجلّ، وَلِيُعِيدَنَّهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إلى مَا خَلَقَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَإِنَّهُ لَيَاقُوتَةٌ بَيْضَاءُ مِنْ يَواقیتِ الْجَنَّةِ، وَلَكِنّ الله سبحانه وتعالی غیّره بِمَعْصِيَةِ الْعَاصِينَ، وستر زینته عَنِ الظَّلَمَةِ والأثمَة لأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى شيء کان بدؤه من الجنّة»(6).
من مواطن إجابة الدعاء عند الحجر الأسود:
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «من استلم هذا الرکن ثم دعا استجیب له، قیل لابن عباس: وإن أسرع؟ قال: وإن کان أسرع من البرق الخاطف»(7)
زیادة شرف الحجر الأسود بتقبیل النبي صلّی الله علیه وسلّم:
إنّ للحجر الأسود من الشرف العظیم والمجد القدیم ما خصّه الله تعالی به دون سائر الأحجار، وممّا زاده شرفاً وفخراً هو تقبیل رسول الله صلّی الله علیه وسلّم له وذلک حین طاف بالبیت العتیق مستلماً له، وإنّ في تقبیل المسلمین واستلامهم للحجر الأسود نقطة دقیقة وهي أن تقع أفواههم موضع فم رسول الله صلّی الله علیه وسلّم وفم الأنبیاء الّذین قبله علیهم الصلاة والسلام، وأن تلمس أیدیهم ما لمسته أیدیهم الشریفة من هذا الحجر المکرّم».(8)
قال الإمام الذهبي رحمه الله في سیر أعلام النبلاء(9): «وقبّل حجراً مكرماً نزل من الجنة، وضع فمك لاثماً مكاناً قبّله سيد البشر بيقين، فهنأك الله بما أعطاك، فما فوق ذلك مفخر، ولو ظفرنا بالمحجن الذي أشار به الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الحجر ثم قبل محجنه، لحقَّ لنا أن نزدحم على ذلك المحجن بالتقبيل والتبجيل… وقد كان ثابت البناني إذا رأى أنس بن مالك أخذ يده فقبلها، ويقول: يد مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقول نحن إذ فاتنا ذلك: حجر معظم بمنزلة يمين الله في الأرض مسته شفتا نبينا صلى الله عليه وسلم لاثما له.فإذا فاتك الحج، وتلقيت الوفد، فالتزم الحاج وقبّل فمه وقل: فم مس بالتقبيل حجراً قبّله خليلي صلى الله عليه وسلم.»
مقام إبراهیم علیه السلام:
قال الله تعالی: «واتخذوا من مقام إبراهیم مصلّی»، سمِّي هذا الحجر الکریم بمقام إبراهیم، لقیام إبراهیم الخلیل علیه حین ارتفع بناؤه للبیت، فکان یرتفع علیه ویبني، وإسماعیل یناوله الحجارة.
روی البخاري رحمه الله في صحیحه(10) من حدیث ابن عباس رضي الله عنهما في قصّة إبراهیم علیه السلام وبناءه للبیت قال: قال رسول الله صلّی الله علیه وسلّم: «فعند ذلک رفعا ـ إبراهیم وإسماعیل ـ القواعد من البیت، فجعل إسماعیل یأتي بالحجارة، وإبراهیم یبني، حتی إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام علیه، وهو یبني وإسماعیل یناوله الحجر، وهما یقولان: ربّنا تقبّل منّا إنّک أنت السمیع العلیم».
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: جاء بهذا الحجر، یعني المقام. وفي هذا الحجر المکرّم أثر قدمي إبراهیم الخلیل علیه الصلاة والسلام حیث جعل الله تعالی تحت قدمیه من ذلک الحجر رطوبة الطین حتّی غاصت فیه قدماه، لیکون ذلک آیة بیّنة ظاهرة.
تطاول المقام عند قیامه ـ علیه السلام ـ علیه لبناء البیت:
اشتهر عند مؤرّخي مکة المتأخرین أنّ المقام تطاول وعلا في السماء حین ارتفع إبراهیم الخلیل ببناء الکعبة المشرّفة، فکان الحجر (مقام إبراهیم) یرتفع بارتفاع الجدار عند البناء، ویقصر به إلی أن یتناول الحجارة من إسماعیل علیه السلام، ثم یطول المقام ویعلو به إلی أن یضعها في علوّها، وهکذا حتّی انتهی من بناء البیت. وذکر هذا الخبر عن علوّ المقام عند البناء الإمامُ المفسّر المحدّث المقرئ النحویّ أبو حیّان محمد بن یوسف المتوفّی سنة 745 هـ ، وذلک في تفسیره(البحر المحیط).
شبه قدمي سیّدنا محمّد صلّی الله علیه وسلّم بقدمي إبراهیم الخلیل:
وذکر ابن ظفر المکّي الصقلي في أنباء نجباء الأبناء من حدیث جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه أنّه قال:
«لمّا خرج علینا رسول الله صلّی الله علیه وسلّم وهو غلام یلعب، فرآه قوم من بني مدلج، فدعوه فنظروا إلی قدمیه، وفقده عبد المطلب، فخرج في طلبه حتّی أتی إلیه ورسول الله صلّی الله علیه وسلّم بین أیدیهم یتأمّلونه فقالوا: ما هذا الغلام منک؟ فقال: ابني، فقالوا: احتفظ علیه، فما رأینا قدماً أشبه بالقدم الّذي في المقام من قدمه.
لقد جعل الله لهذا الحجر الکریم (مقام إبراهیم) فضائل عدیدة، وخصّه بآیات کثیرة تدلّ علی عظیم شرفه وکبیر شأنه.
روی البخاري ومسلم(11) في سبب نزول قوله تعالی: «واتخذوا من مقام إبراهیم مصلّی» قول سیّدنا عمر رضي الله عنه: «وافقت ربّي في ثلاث، فقلت: یا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهیم مصلّی، فنزلت: واتخذوا من مقام إبراهیم مصلّی»، وقد جاء في روایة أبي نعیم في الدلائل من حدیث ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ النبي صلّی الله علیه وسلّم بید عمر، فمرّ به علی المقام فقال له:هذا مقام إبراهیم، فقال عمر: یا نبي الله ألا نتخذه مصلّی؟ فنزلت: «واتخذوا من مقام إبراهیم مصلّی». (12)
فضائله:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:« إِنَّ الرُّكْنَ وَالْمَقَامَ يَاقُوتَتَانِ مِنْ يَاقُوتِ الْجَنَّةِ، نَزَلَا مِنَ السَّمَاءِ لَهُمَا نُورٌ، فَلَمَّا وُضِعَا فِي الْأَرْضِ طُفِئَ نُورُهُمَا، وَلَوْلَا مَا أَطْفَأَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ نُورِهِمَا؛ لَأَضَاءَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، آنَسَ اللهُ تَعَالَى بِهِمَا آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَكَانَا يَتَلَأْلَآنِ تَلَأْلُؤًا مِنْ شِدَّةِ بَيَاضِهِمَا، وَأَخَذَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الرُّكْنَ فَضَمَّهُ إِلَيْهِ اسْتِئْنَاسًا بِهِ، وَلَوْلَا مَا طَبَعَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَيْدِي الْجَاهِلِيَّةِ لَأَبْرَأَ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ ، وَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ شَيْءٌ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا الرُّكْنَ وَالْمَقَامَ، فَإِنَّهُمَا جَوْهَرَتَانِ مِنْ جَوْهَرِ الْجَنَّةِ، يَأْتِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مِنْ أَبِي قُبَيْسٍ، لَهُمَا عَيْنَانِ وَشَفَتَانِ يَشْهَدَانِ لِمَنْ وَافَاهُمَا بِالْوَفَاءِ .»(13)
ــــــــــــــــــــــ
1ـ أخبار مکّة1/65؛ ونحوه في المستدرک للحاکم2ـ الأزرقي 1/3283ـ القری 2954ـ صحیح ابن خزیمة4/221؛ المستدرک1/4575ـ الفاکهاني 1/4446ـ الأزرقي1/322؛ الفاکهي1/947ـ مصنّف عبدالرزاق5/308 ـ حجّة الله البالغة للشاه ولي الله الدهلوي2/659ـ 4/4210ـ کتاب الأنبیاء، باب یزفون 6/39811ـ صحیح البخاري، الصلاة، باب ما جاء في القبلة1/504؛ صحیح مسلم، فضائل الصحابة، باب فضائل سیّدنا عمر رضي الله عنه4/186512ـ ذکره الحافظ ابن حجر في الفتح 8/169 في زیادات الباب فهو صحیح أو حسن علی قاعدته.13ـ الفاکهي 1/444، عزاه السیوطي في البدر المنثور 1/119 للأزرقي والجندي في أخبار مکّة.
الکاتب: عبدالكريم حسيني