يقول الله – عز وجل -: ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ﴾ [آل عمران: 62 – 63].تأتي هذه الآية في سورة آل عمران بعد الحديثِ عن ميلاد عيسى – عليه السلام – وطبيعته، وأنه عبدُ اللهِ، خلقه […]

يقول الله – عز وجل -: ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ﴾ [آل عمران: 62 – 63].
تأتي هذه الآية في سورة آل عمران بعد الحديثِ عن ميلاد عيسى – عليه السلام – وطبيعته، وأنه عبدُ اللهِ، خلقه من تراب كما خلق آدم – عليه السلام – فلا يستقيم لأهل الكتاب أن يتَّخِذوا غرابة ولادته دون أبٍ ذريعةً لرفعِه عن مرتبة البشر إلى درجة الألوهية.
فختم – سبحانه – هذا الحديث بتلك الآية التي يُقرِّر فيها إجمالاً ما قرَّره سابقًا تفصيلاً، وهو حقيقةُ التوحيد لله – عز وجل – وأنه – سبحانه – المُتفرِّد بالعبودية والألوهية، وأنه إذا تولَّى أهل الكتاب عن تلك الحقيقة بعد بيانها، فإن الله – عز وجل – عليم بهم.
لكن العجيب في الآية، والذي يستحق أن نتوقَّف عنده كثيرًا هو التعبير بالمفسدين في قوله: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ﴾ [آل عمران: 63]، فقد كان يستقيم أن يقولَ: (بالمشركين)، أو (بالظالمين)، أو (بالفاسقين)، ونحو ذلك، ولكن التعبير ﴿ بِالْمُفْسِدِينَ ﴾ يضيف معنى زائدًا، لم يكن ليتقرَّرَ بغيره من التعبيرات، وهو أن المشرك مُفسِدٌ في الأرض، وأن الشرك فساد في الأرض، وأن الأرض ضائعة مطموسة بالفساد والهلاك في ظلال الشرك.
وهذا المعنى هو المنصوص عليه في قوله – تعالى -: ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾ [الأنبياء: 22].
فعلى أحد التفسيرينِ، الكونُ يفسُدُ باتخاذِ آلهةٍ مع الله، السموات والأرض لا تقومانِ ولا تنصلحان وفيهما الشرك.
كيف لا، ﴿ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا ﴾ [آل عمران: 83]، فكيف يكون كلُّ مَن فيهما قد أسلم لله، ثم يأتي البشر بالشرك، فتنصلحان له؟!
كيف لا، وقد خلقهم الله لعبادته؛ ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، فعبدوا غيره.
كيف لا، وقد خلقهم ورزقهم، وله مُلْك كل شيء، فقالوا: ليس له أن يحكمنا في ملكه، بل يحكمنا بشر؟!
إلا أن هذه الآية، وإن كانت قد وضعت أيديَنا على مواطن الفساد، فإنها أيضًا قد وضعتها على موطن الإصلاح، وهو أن يكون الكون كلُّه لله، والدين كله لله، ولا حكم إلا لله.
هذا هو أساس الإصلاح، إصلاح الفرد، والمجتمع، بل والكون كله.
إنه لا قوام إلا بالرجوع إلا المنبع الأوَّل، إلى المَعِين الصافي.
وليس ذلك الرجوع رجوعًا إلى مجرَّد قراءته، بل ولا مجرد الخشوع والبكاء، بل ولا مجرد تدبره وفهم معانيه؛ بل بكل ذلك مشفوعًا بالعمل، معتقدين أنه الطريق الوحيد للإصلاح.
هذا هو الذي نجا به الجيل الفريد، ومُكِّن له به في الأرض، وهو الذي لا نجاةَ لنا إلا به، وإلا فالقرآن هو هو، والدين لم يتغيَّر، ومع ذلك صاروا سادةَ الدنيا، وصرنا أذلةَ البشر، وأحطَّ أُمَمِهم في كل النواحي تقريبًا.
فالفرق إذًا في إعمال ذلك الكتاب، وتلك الشريعة، وجعلهما منهج الحياة.
إن مما أفادته هذه الآية بوضوح: خطأ مَن ظن أن الإصلاح يأتي أولاً، ثم تأتي الشريعة، وكأنها زينةٌ وأعلامٌ تُعلَّقُ ابتهاجًا بحصول الإصلاح، وذَهاب الفساد.
إنها معادلة بسيطة: طرق الفساد كثيرة، وطريق الإصلاح واحد، هو منهج رب العالمين.
وصلَّى الله وسلَّم على محمد وآله وصحبه أجمعين