آه، آه، يصعب علي ذكره حقا، عندما أتفكر في تلك اللحظة أتألم وأرتعش من أخمص القدم إلى مفرق الرأس حسرة، وأسى.

هيّا صديقي، هيّا..
– إلى أين؟
– إلى سفح الجبل، نلعب ونرتع..
– حذرتني أمي من أن أبتعد من البيت كثيرا، والجبل ببعيد منا.
– يا جبان، حري بك أن تجالس البنات ولا تخرج من البيت، ولكنني قوي، وصرت رجلا جلدا..
– رجل! أنت؟ ولم تعد تجاوز خمس سنوات من عمرك..
– نعم، سألقاك لاحقا..
ذهب ولم أكن أتخيل أن هذا اللقاء، اللقاءُ الأَ…أَ..
آه، آه، يصعب علي ذكره حقا، عندما أتفكر في تلك اللحظة أتألم وأرتعش من أخمص القدم إلى مفرق الرأس حسرة، وأسى.
فزعت إلى بيتي، فاعتصمت بها لشدة ما وجدت، النوم جافاني، كان يوم الثلاثاء، وعندما كنت آوي إلى فراشي تداهمني الأفكار، والخيالات، ماذا حدث؟ وكيف حدث؟ فلم ألبث أن غرقت في لجة الكرى.
أنت أخي الريان؟ أين أنت يا حبيبي؟ أين أنت يا ريان؟ لماذا تأخرت؟ لم يكن ذلك من دأبك، مع من ألعب؟ مع من أعدو وأجري؟ لا تبتعد مني من فضلك.
فإذا صوت غريب قلعني من مكاني وأفسد علي حلمي مع حبيبي، طار أبي واقفا وأسرع نحو الصوت، من هو؟ هو أبو ريان.
كئيب حزين، لا يقر له قرار، يعجز عن الكلام، يتمتم لا تعرف منه كلمة، كأنه يدعو الله، و يطلب منه شيئا.
حاول أبي تهدئة روعه، والفزع مستبد بنا جميعا، بعد أن تهدأ وفزّع عنه قليل من الكرب وسرّي عنه بعض الذي وجد، قام و اتصل بفرق الإنقاذ، وأخبرهم بما حدث لابنه الريان.
طفل صغير ذو الخمس سنوات، اسمه ريان، سقط في بئر ضيقة بقطر يبلغ 45 سنتیمترا في أعلاه، ويضيق كلما تقدم التوغل نحو قعره، هكذا أضيق فأضيق.
كلما كانت تمر ساعة، يدب الأمل فينا من جديد، انتهت العملية بعد أيام كل لحظة فيها تخيل كسنة كاملة، و قد طال انتظار كثير ممن طووا الكبد الحرّى على جمر الترقب، إنها ساعة عصيبة من أشدها وأحرجها، العقول مشدودة، والعيون محدقة، والأنفاس متوقفة، محبوسة في الصدر، وأكف الضراعة مرفوعة، يزداد خفقان القلوب حينا بعد حين، خرج الرجل والريان في أحضانه، كان يبدو سالما معافى.
وكل شيء معد ليصل الطفل في أسرع وقت إلى المستشفى ليرجع إلى أحضان أمه ولا يصاب الأب في فلذة كبده، ولكن
مشيئة الله التي لاترد ولا تصد حالت دون ذلك كله، وضاعت التدابير عند التقدير وبعد ساعتين ارتحل الريان الحبيب إلى الرفيق الأعلى.
حدث كل ما حدث بمرأى و مسمع من العالم، وصار الخبر الرئيس والعنوان في أعلى كل صحيفة وموقع إلكتروني ونشرات الأخبار، وصارت موضوعا يتابع من أنحاء العالم، وكم وحدت قصة الريان بين أقوام، بل وبين بلدين، وسببت نهضة شاملة، هبة إنسانية قلما نراها اليوم.
تعازي متوالية، من الفنانين واللاعبين وبعض الملوك، وعامة الناس. إن الريان أوى إلى ظل لايزول، وهو نائم تحت كومة من التراب ولكنه أرى الملل والأمم الآلام و المصائب التي تلم بأترابه في أقصى العالم ولم يرمش لأحد جفن، الأطفال الذين يقتلون ولا يدرون بأي ذنب قتلوا، الذين يحضرون بين يدي الله بأشلاء ممزعة، وملابس ممزقة، ملطخة بالدماء، الذين لم يجدوا ملجأ ولا ملاذا في الدنيا وأخروا شكواهم إلى يوم يوزن كل شيء بميزان العدل والإنصاف، يوم يعض الظالم على يديه، يوم يعلو الصراخ ولا يسمع إلا يا ليتني كنت نسيا منسيا، يا ليتني كنت ترابا.
الريان علّمنا أن الإنسانية لاتدرك بادعاءات جوفاء، وأقوال مزخرفة تذروها الرياح، علمنا أن الأمة بأشد الحاجة وأمسها إلى هبة إنسانية تحمل معاني حقيقة غير مصطنعة لا روح فيها.

لتتخلص الدنيا من أوحال الظلم والبهيمية، لا سبيل لها إلا تلك الهبة الإنسانية. ولكننا أبناء الأحاسيس والظواهر لو أقمنا العالم وأقعدناها لطفل واحد بريء هكذا، فلمَ نجلس مكتوفي الأيدي، معصوبي الأعين أمام هذه الكوارث العالمية، الحقيقة ما قال العالم النفساني باول: كلما كانت المأساة متفردة لشخص واحد، كان التعاطف معه أوسع، وكلما اتسعت دائرتها، تلاشت دائرة التعاطف.
أخيرا؛ العالم في انتظار مثل تلك الهبة الإنسانية…