هذا معروف سمعناه كثيرا أن مرور الأيام يُنضِج الخام، وقد أحطنا خبرا أنه بطول الزمان يكبر الصبر. هذا التحقيق نشاهده بأمّ أعيننا حيث نرى أن الغريسة إذا أثبتنا جذرها في الأرض مع أنها لا يرجى كبرها وثمرها -إلا ما شاء الله واحدة في العشر- فإنها كيف تورّق، وينشقّ شُمروخُها حتى تغصّن، فتخرج منها غُصنةٌ لطيفة […]

هذا معروف سمعناه كثيرا أن مرور الأيام يُنضِج الخام، وقد أحطنا خبرا أنه بطول الزمان يكبر الصبر. هذا التحقيق نشاهده بأمّ أعيننا حيث نرى أن الغريسة إذا أثبتنا جذرها في الأرض مع أنها لا يرجى كبرها وثمرها -إلا ما شاء الله واحدة في العشر- فإنها كيف تورّق، وينشقّ شُمروخُها حتى تغصّن، فتخرج منها غُصنةٌ لطيفة ضعيفة في بدء حياتها، وتصير هذه الغصنة -إن شاء الله- بعد مدة أساسا لشجرة كبيرة، ومنبتًا لغصون كثيرة، ومنبعا لأثمار لذيذة.

    إنك لا تصدّق إذا قيل لك إن حمامة جعلت بيضتها في ظلمات بئر، فإن فرخها لا يرى طيران الطيور، ولا يقدر على التحليق في السماء أبدا، ويمكث في هذه الظلمات دوماً؛ لأن هذا ظاهر كظهور الشمس في الآفاق بعد سترها بالسحب، وفرخ الحمامة لا يبقى فرخا أبدا؛ بل ينشأ في كل آن، وكل لحظة يزداد في تتمّة خلقته وقوته وهيئته، حتى كملت ريشاته، وقويت جناحاه، ويحلّق في ظلمات البئر منجّما. فإنه يأتي زمان يعلو الفرخ، ويصعد من أسفل البئر إلى أعلاها، ويخرج من ظلماتها إلى نورالعالم، وبالرغم من عدم الرؤية لطيران الطيور فإنه قادر آنذاك على التحليق بجوار سائر الحمامات خارج البئر، ويطير بجناحيه في عنان السماء، ولا يمنع حرّيته هذا الغطاء.

ولكن لا يَنضَج كل خام، ولا يكبر كل صغير، ولا يصير كل غريسة شجرة كبيرة، ولا يبلغ كل فرخ إلى الطيران؛ بل كثيرا ما يزهق الخام قبل النضج، وكثيرا ما يقع العجز على الصغير قبل كبره، وكثيرا ما تُهشَم الغريسة قبل أن تصير شجرة، وكثيرا ما يتلف الفرخ قبل بلوغه وتكمّله…

دفن في ما بين هذه الضوضاء جوهر نادر ولؤلؤ طريف هو مستوعب ومتّسع في نفسه سرَّ نضج الخام، وسرَّ كبر الصغير، وسرَّ بقاء الغريسة، وسرَّ طيران الفرخ، وسرَّ كل شيء من قبيل هذا…

دقق النظر في أن الخام يطيق أن يتحمل صعوبات النضج، ويقدر على المرور بالمراحل في طريق الوصول إلى إنضاجه وإحكامه، مادام يملك ذلك الجوهر واللؤلؤ. وإن الصغير يسير في سير تكامله ونموه، مادام يحذو إثر ذلك الجوهر واللؤلؤ. وإن الغريسة تنشأ شيئاً فشيئا، وتنبت شبرا شبرا، ما دام يقتفي أثر ذلك الجوهر واللؤلؤ. وإن فرخ الحمامة يدنو من الاستطاعة على الطيران والتحليق في السماء والاستعلاء على الجبال والسحب، مادام يستمسمك بحبل ذلك الجوهر واللؤلؤ.

ممّا لا غرو فيه أن لكل طريق مانعا، ولكل عقبة مزلقا، ولكل بحر موجا. حسب ما يليق أن يقال حول امرئ مثاليّ على الإطلاق: إن المثالي ليس من يقفِز فوق النيران ولم‌يشتعل، أو يثب في البراكين ولم ‌يحترق، وليس من يصعد هضبات الجبال ولم‌يعثر، أو يرقى على ربوات الصخور ولم‌ يكبُ، وليس من يركب على أمواج البحار ولم يسقط، أو يسبح في مياه المحيطات ولم‌ يغرق؛ بل إنما المثالي مَن لا يفرّ مِن نيران البأساء والضراء، ويتألم بما يمسّه من أوجاع شرارات النيران حبّا واشتياقا لما حثّ الله تعالى عليه بقوله الكريم في سورة البقرة المباركة، آيةِ ١٧٧: “لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا، وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ، أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ” إذ جعل الصبر في البأساء والضراء من جملة البِرّ.

لاتحسب المجد تمرا أنت آكله…لن‌ تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

وإنما المثالي من لا يظن بربّه ظن السَّوء إذا ألقي في نار أو بركان، لأن قلبه مطمئن بحبّ الله، إن كانت مصلحته نصره الظاهري، فلا شك أن ربه قدير على ذلك و لو بخرق العادة، كما نصر سيدنا إبراهيم -على نبينا وعليه الصلاة السلام- خارقا للعادة حين ألقي في النار ويحكي لنا تسليا وتذكرا في سورة الأنبياء، آية ٦٩: “قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ”.

فكانت كذلك، فلم يُصَب بأذى؛ وإن كانت مصلحته نصره الباطني، فلاريب أنه – تعالى- عزيز في ملكه، لايغالبه أحد، وحكيم في شرعه وقَدَره كما يقول في سورة آلعمران، آية ١٢٦: “وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ”.

ويؤكد هذا بقوله الكريم في سورة الأنفال، آية ١٠: “وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” ولا يكتفي بهاتين الآيتين بل مشجّع على ذلك في مواقف كثيرة؛ حتى يقول تفضّلا في سورة الروم، آية٤٧: “وَكَانَ

حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ”. وإن كانت مصلحته شهادته فتلك هي التي ينتظرها المثالي متمنّياً حصولها وراغبا في تحقيقها حتى يكون من جملة الشهداء الذين أنعم الله عليهم وبشّرهم في آية ٦٩ من سورة النساء: “وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا” و هكذا قلب امرئ مثالي، يحب ماشاء ربه ورضي برضاه تعالى ويطيب له ما يصيبه منه -عزوجل-.

كم فرج بعد إياس قد أتى…وكم سرور قد أتى بعد الأسى

من يحسن الظن بذي العرش جنى… حلو الجنى الرائق من شوك السفا

وإنما المثالي من لا يدفعه ملال الطريق عن تواصل الأقدام في الصعود على هضبات الجبال؛ لأنه يعلم يقينا إذا وهن وكسل فيسقط في قعرة أو وهدة، لسمعه آيات الله منها ما قال تعالى في سورة آل‌عمران، آیة ١٢٢: “إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ”.

وتدبره في أن ما وقع لفرقتين من المؤمنين، من بني ‌سلمة و بني‌ حارثة حين ضعُفوا وهمّوا بالرجوع لمّا رجع المنافقون، والله ناصر هؤلاء بتثبيتهم على القتال صرفهم عمّا همّوا به، وتيقّنه في أنه على الله وحده فليعتمد المؤمنون في كل أحوالهم.

من يتهيّب صعود الجبال…يعش أبد الدهر بين الحفر

وإنما المثالي من لا يمنعه صعوبة السبيل من تتابع العزم في الرقيّ على ربوات الصخور، لأنه يعشق دوماً ما يحضّه الله تعالى عليه في مواضع كثيرة منها ١٧ من سورة لقمان نقلا أن سيدنا لقمان هكذا نصح ابنه: “يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ، إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ”.

فإن إقامة الصلاة على أكمل وجه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير تلك الأمور من أوامر الله و نواهيه لا تخلو عن مكروه وصعب يصيب عشاقها، والصبر على ما نالهم من المكروه والصعب في تلك الأمور، والاستقامة على تتابع العزم في تقضّي السبيل من الأمور التي ينبغي الحرص عليها.

لا تيأسنّ إذا كبوتم مرة…إن النجاح حليف كل مثابر

وإنما المثالي من لا يخاف من زحوف الأمواج الكبيرة إليه، مطيعا ومنقادا لما أمره الله تعالى في آية ١٥ من سورة الأنفال: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ”.

ولايحزن من هجوم الأمواج الطاحنة رائيا مطلوبَه في أمثال الآية ٦١ من سورة الزمر: “وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ”. لأنه يرى فوزه، و هو أن يدخله ربه في الجنة، ويسلمه من العذاب، بالاستقامة في امتثال أوامره واجتناب نواهيه؛ فعاقبةً لا حزن له على ما فاته من الحظوظ الدنيوية.

لا دروع سابغات لا قنا…مشروعات لا سيوف منتضاة

قوة الإيمان تغني ربها…عن غرار السيف أو سنّ القناة

ومن الإيمان أمن وارف…ومن التقوى حصون للتقاة

وإنما المثالي من لا يخشى من مكر أعدائه ولو كثروا كثرة مياه البحار، حتى إذا علم أن جميع المياه التي يركب ويعتمد عليها تمكر به مكراً شديداً يحيطه من كل جانب لتُغرِقه وتمنعه من المواصلة طريقَه، فهو على الله يتوكل وحده وعلى طريقته يداوم مجيباً دعوة الله في سورة الزمر، آية ٣٦: “أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ”. بقوله: “حسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير”. كمثل الذين استجابوا لله والله كفاهم، وأنزل مدحا في شأنهم آية ١٧٢ من سورة آل‌عمران: “الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ” لأنهم عندما دُعوا إلى الخروج للقتال في سبيل الله وملاقات المشركين في غزوة “حمراء الأسد” التي أعقبت “أحداً” بعد ما أصابتهم الجروح يوم أحد، فلم‌ تمنعهم جروحهم من تلبية نداء الله ورسوله؛ فأعلن الله -تعالى- جزاءً لما عملوا: “لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ” من جانب الله وهو الجنة، بما استقاموا في مواصلة هذا الطريق. وهؤلاء المستجيبون هم “الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل”. آل‌عمران١٧٣؛ لأنهم حين رأوا مكر الناس، على الله يتوكلون وحده، ويداومون على طريقتهم معتقدين أنه -تعالى- يكفيهم، وهو نعم من يُفوَّض إليه الأمر. ما أحسن شعر الإمام الشافعي -رحمه الله- حيث قال:

أنت حسبي وفيك للقلب حَسبُ…وبحسبي إن صحّ لي فيك حَسبُ

لا أبالي متى وِدادُك لي صحّ…من الدهر ما تَعَرَّضَ لي خَطبُ

وإنما المثالي من لايقنَط من رحمة الله إذا وقع تحت أثقال الأمواه من المحيطات العميقة الظلماء وهو هنالك ضاق صدره بما وقع عليه من ثقل عظيم، وظلام شديد، وضاقت الدنيا عليه بما رحبت، كما وقع هؤلاء الثلاثة، وهم: كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية -رضي الله عنهم وعن سائر الصحابة أجمعين- تحت أثقال عظيمة وظلمات شديدة إذا أُخِّر قبول توبتهم بعد تخلّفهم عن الخروج مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى تبوك، فأمر النبي بهجرانهم، وأصابهم حزن وغم على ذلك حتى ضاقت عليهم الأرض على سعتها، وضاقت صدورهم بما حصل لهم من الوحشة، وعلموا أن لا ملجأ لهم يلجؤون إليه إلا إلى الله وحده؛ فأنزل الله مخبرا بتوبته عليهم في سورة التوبة آية ١١٨: “وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا، إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ” فرحمهم ربهم بتوفيقهم للتوبة، ثم قبل توبتهم، إنه هو التوّاب على عباده، الرحيم بهم.

فكذلك المثالي في تلك الظلمات لا ييأس من رحمة الله، لأن آية ٥٣، من سورة الزمر : “قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ” إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ” تكرّر في خاطره دوما وتسطع في قلبه شوقا، فهو من الله يرجو وإليه يبتهل وإياه يسأل وإياه يدعو.

إذا اشتملت على اليأس القلوب…وضاق لما به الصدر الرحيبُ

وأوطئت المكاره واطمأنت…وأرست في أماكنها الخطوبُ

ولم‌ تر لانكشاف الضر وجها…ولا أغنى بحيلته الأريبُ

أتاك على قنوط منك غوثٌ…يمُنُّ به اللطيف المستجيبُ

وكل الحادثات إذا تناهت…فموصول بها الفرج القريبُ

هناك سؤال طُرح على الراغبين في المثالي، و هو: قد بدت لنا خصال من أخلاق المرء المثالي، ونرى أنه يُوجد بعض هذه الخصال في امرئ أو أكثر مما ذكر، ولكن لايصير مثاليًّا؛ فكيف يمكن ذلك؟! وكيف يصير المرء مثاليًّا؟!

هذا هو السؤال الذي يسوقنا إلى المطلوب وهو العَلَم الذي يدلّنا إلى المقصود؛ وما مطلوبنا في هذه الرسالة؟! وما مقصودنا في هذه المقالة؟! اعلم أن مطلوبنا ومقصودنا هنا هو الذي ينبغي أن يُطلَب في كل فعل ويُقصَد في كل عمل، بل يجب في بعضها. كما مرّ بنا الكلام حول أن في نضج الخام، وبلوغ الصغير، وبقاء الغريسة، وطيران الفرخ سرّا عبرنا عنه أنه جوهر نادر ولؤلؤ طريف؛ وبان أن للمثالي صفات حميدة وقد ذكرنا بعضها مع صرف النظر عن أنه كيف تُحصَل هذه الصفات له؟!

ممّا يجذب أبصارنا ويعجب أفكارنا أن المثاليّ لا يكون مثاليّا بصفاته كلها إلا إذا ملك ذلك الجوهر الذي هو من أغلى الجواهر وأنفس اللآلي! وما شأنك إذا فهمت أن لمعان كل صفة من تلك الصفات الذي يزهر من وجه المثالي ويتلألأ من أطرافه، يخرج من وجود هذا الجوهر و اللؤلؤ! فلعلك تسأل ما هو الجوهر النادر و اللؤلؤ الطريف، الذي هو سرّ ذلك كلّه؟!

لا أؤخرك منتظرًا معرفته، ومترقِّبًا تبيّنه، ومشتاقًا حصوله! فأريح نفسك حتى تطير إلى وجدانه فرحًا! ألا هذا الجوهر النادر و اللؤلؤ الطريف هو الذي يصطلح بيننا بالاستقامة. ما أجمل تبيان القرآن لنا الاستقامة في سورة فصلت، آية ٣٠: “إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ” بأن ملاك الإيمان والأعمال والصفات وغير ذلك مما يوصلنا إلى الله ورضوانه، هو الاستقامة وبأن عدم الخوف في ما يُستَقبَل في الآخرة وعدم الحزن على ما يفوت من حظوظ الدنيا والتبشير بالدخول في الجنة، ثمرة هذه الاستقامة. و ما أحث الوعد الإلهي على حصولها في سورة الجن، آية ١٦: “وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا” بأنه لو استقام الجن والإنس على طريق الإسلام لأمدّهم الله بنعم متنوعة. وما ألزم التوجه إليها حيث أمر الله تعالى نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- وجميع المؤمنين في سورة هود، آية ١١٢: ‘فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا، إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ” بالدوام على الالتزام في الصراط المستقيم. انظر كيف يرينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهمية الاستقامة لمّا قال: “شَيَّبَتنِي هُودٌ و أَخَوَاتُهَا” أي سورة هود ونظائرها، لأن فيها الأمر بالاستقامة وكيف يزيد فيها إذا قال:”قارِبُوا و سَدِّدُوا! واعْلَمُوا أنّه لن‌يَنجُوَ أحدٌ منكم بعَمَلِه”، قالوا:ولا أنت يارسول الله؟! قال: “ولا أنا، إلا أن‌يتغمَّدني اللهُ برحمةٍ منه وفضلٍ”.

رواه الإمام مسلم وأشار الإمام النووي -رحمهما الله- في شرحه لهذا الحديث في كتابه “رياض الصالحين” بأن “المقاربة” ههنا بمعنى القصد الذي  لا غلوّ فيه ولاتقصير، و”السَّداد” هو الاستقامة والإصابة؛ وخلاصة ما يُفهم من كلام سيدالمرسلين، أنه ما يُطلب منا هو الاستقامة في الإسلام. قال الأستاذ أبوالقاسم القشيري:”من لم‌ يكن مستقیما في حاله ضاع عمله وخاب جده، ونقل أنه لا يستطيعها إلا أكابر؛ لأنها الخروج عن المألوفات و مفارقة الرسوم والعادات والقيام بين يدي الله تعالى على حقيقة الصدق، ولعزتها أخبر -صلى الله عليه وسلم- أن الناس لن‌يطيقوها؛ فقد أخرج أحمد -رحمه الله-: “استقيموا ولن ‌تطيقوا”.

علّه تعالى يريد مبالاتنا بالاستقامة أكثر مما يخطر ببالنا حيث علّمنا أن نقرأ في كل ركعة نصلي، “اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ”. الفاتحة٦؛ لأن فيها الدعاء بطلب توفيق الاستقامة. قال بعض العلماء: “الاستقامة هي الدرجة القصوى التي بها كمال المعارف و الأحوال، وصفاء القلوب في الأعمال، و تنزيه العقائد عن سفاسف البدع و الضلال”.

فمن كان له هذا الجوهر مع صفاته الحميدة المطلوبة فهو يكون مثاليّا…

للطالب: أميرحمزة أطلسي