أسوأ من ذلك، كان علماؤهم ورهبانهم لم يقوموا بعمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكانوا مبهورين ببريق زينة الدنيا؛ فجمدت قرائحهم وأحاسيسهم وأخلدوا إلى الأرض حيث قال الله تعالى: «لَولَا یَنهَاهُمُ ٱلرَّبَّانِیُّونَ وَٱلأَحبَارُ عَن قَولِهِمُ ٱلإِثمَ وَأَكلِهِمُ ٱلسُّحتَ لَبِئسَ مَا كَانُوا یَصنَعُونَ» (المائدة٦٣)

إذا نلقي نظرة على تاريخ البشرية، نعلم أنه لقد مرت البشرية بالعديد من التقلبات؛ أحيانا أصيبت بشلل الفكر فأصبحت منغمسة في الشرك لا تسطيع أن تعرف ربها، وأحيانا اتخذت هواها إلاهاً فأصبحت جامحة عاتية في شهواتها. ولقد رأينا الأنبياء الذين كانوا قبل بعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم- يكتسحون أمامهم كل أقزام البشرية ويزيحون تجاعيد الجهل من وجهها، ويعطون الأمن والإرشاد؛ ولكن إذا مات نبي انقطعت سلسلة الدعوات والتزكية وكانت الجاهلية تثب على عامة الناس، فنشبت أظفارها وزادتها الأيام سرعة في هبوطها ونزولها؛ حتى يأتي نبي آخر ويزيل الجهل منهم ویعلمهم دروس الحياة؛ ولكن لم يكن شخص لينظر إلى المجتمع من خلال عيون الأنبياء ويتمعر وجهه مما يحدث في الخارج من المعاصي والذنوب ويشمر عن ساق الجد لإزالة المنكرات ويشعر أنه خُلق وحيدا لهذا الأمر؛ بل سكت ونظر إلى المجتمع كمثل صاحب سفينة ينظر إلى سفينته الغارقة ويعضّ بنان الندم ولا يفعل شيئاً
ولهذا وبّخ الله بني إسرائيل على تركهم النهي عن المنكر حيث قال: «كَانُوا لَا یَتَنَاهَونَ عَن مُّنكَر فَعَلُوهُ لَبِئسَ مَا كَانُوا یَفعَلُونَ»
(المائدة٧٩)
أسوأ من ذلك، كان علماؤهم ورهبانهم لم يقوموا بعمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكانوا مبهورين ببريق زينة الدنيا؛ فجمدت قرائحهم وأحاسيسهم وأخلدوا إلى الأرض حيث قال الله تعالى: «لَولَا یَنهَاهُمُ ٱلرَّبَّانِیُّونَ وَٱلأَحبَارُ عَن قَولِهِمُ ٱلإِثمَ وَأَكلِهِمُ ٱلسُّحتَ لَبِئسَ مَا كَانُوا یَصنَعُونَ» (المائدة٦٣)
وهي قصة تاريخ البشرية قبل بعثته -صلى الله عليه وسلم- ولكن كانت بعثته -صلى الله عليه وسلم- ألبست العالم ثوبا جديدا، وأعطت الإنسانية حياة جديدة، وغيرت مصيرها وطموحاتها وآمالها؛ لأن بعثته -صلى الله عليه وسلم- لم تكن لقبيلة دون قبيلة أو لبلد دون بلد أو لإقليم دون إقليم؛ بل كانت رسالته -صلى الله عليه و سلم- تجاوز القبائل والأقاليم و البلاد و الحدود كما قال الله سبحانه تعالى: «وَمَا أَرسَلنَاكَ إِلَّا رَحمَة لِّلعَالَمِینَ»
کان رسول الله -صلى الله علیه وسلم- مثل المطر یمطر في كل مكان ولا يستثني أي أرض وشملت رحمته -صلى الله علیه وسلم- جميع طبقات الشعب المختلفة ويشع بنوره العالم.
ولم تنحصر هذه الرسالة والمسئولية على الرسول -صلى الله عليه وسلم- بل تحملت الأمة على عاتقها عبء الرسالة، حيث قال الرسول -صلى اللّٰه عليه وسلم- «كُلُّكُمْ راعٍ ومَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، فالإِمامُ راعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والرَّجُلُ في أهْلِهِ راعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والمَرْأَةُ في بَيْتِ زَوْجِها راعِيَةٌ وهي مَسْؤُولَةٌ عن رَعِيَّتِها، والخادِمُ في مالِ سَيِّدِهِ راعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ».
إذا کانت هذه المسئولية لا تشمل جمیع الأمة، كيف تستمر رحمته -صلى اللّٰه عليه وسلم- علی العالم کله، لأجل هذا شدد أمته على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حيث قال -صلى الله عليه وسلم-
عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- يَقُولُ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَكُونُ فِي قَوْمٍ يَعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي، يَقْدِرُونَ أَنْ يُغِّيرُوا عَلَيْهِ، فَلَا يُغَيِّرُونَ إِلَّا أَصَابَهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ قَبْلَ أَنْ يَمُوتُوا
(ما مِن قَوْمٍ يَكُونُ بَيْنَ أظْهُرِهِمْ مَن يَعْمَلُ المَعاصِيَ هم أعَزُّ مِنهُ، وأمْنَعُ، لَمْ يُغَيِّرُوا، إلّا أصابَهُمُ اللَّهُ مِنهُ بِعَذابٍ» «والَّذي نَفسي بيدِهِ؛ لتأمُرُنَّ بالمعروفِ، ولتَنهونَّ عنِ المنكَرِ، أو ليوشِكَنَّ اللَّهُ أن يبعثَ عليكُم عذابًا من عندِهِ، ثمَّ لتدعُنَّهُ، فلا يُستَجابُ لَكُم».
هذه هي التهديدات الشديدة التي وجهها الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- بالتخلي عن وصية الخير والنهي عن المنكر ،
وكان أول من تلقى هذه الرسالة كاملة أبو بكر الصديق -رضي اللّٰه عنه-، كأنه خلق وحيدا لإزالة المنكرات وكان في أخلاقه ومعاشه وسلوكه اصطبغ بصبغة النبوة وكانت من أبرز مزاياه وصفاته حميته الإسلامية؛ حيث لم يستطع موت النبي -صلى اللّٰه عليه وسلم- أن يطفئ جذوة الحماس الديني فيه! بل يثبت كالجبل وتدرعو بالصبر وعلى رغم حبه الشديد للنبي -صلى اللّٰه عليه وسلم- الله حيث رضع بلِبان حُبه -صلى اللّٰه عليه وسلم- كما نقل كتب السير كثيراً من الروايات التي تدل على حبه للرسول -صلى اللّٰه عليه وسلم-.
حکی ابن کثیر في كتابه البداية والنهاية قصة منها:
«وقد روي أنه لما انطلق رسول الله -صلى اللّٰه عليه وسلم- إلى الغار ومعه أبوبكر، كان يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه، حتى فطن رسول الله -صلى اللّٰه عليه وسلم- فقال: «يا أبا بكر ما لك تمشي ساعة خلفي و ساعة بين يدي؟» فقال يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك.
إضافةً إلى محبته للرسول، كان ذا قلب ينبض بالرحمة. رقيق القلب، صاحب عاطفة جيّاشة لا يملك عينيه عند تلاوة القرآن؛ لأجل هذا أصرت أم المؤمنين عائشة علی النبي -صلى اللّٰه عليه وسلم- ألا يصلي أبوبكر بالناس في مرض وفاته -صلى اللّٰه عليه وسلم- لأنه رجلٌ أسيف.
مع کل ذلك نعى الصديق في شجاعة وحماسة موت الرسول الذي كان فلذ كبده وقال: «مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَمْ يَمُتْ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَات» وتلا هذه الآية:
«وَ مَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُول قَد خَلَت مِن قَبلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفَإِین مَّاتَ أَو قُتِلَ ٱنقَلَبتُم عَلَىٰ أَعقابِكُم وَمَن یَنقَلِب عَلَىٰ عَقِبَیهِ فَلَن یَضُرَّ ٱللَّهَ شَیئاوَسَیَجزِی ٱللَّه ٱلشَّاكِرِینَ»
قال القرطبي: هَذِهِ الْآيَةُ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى شُجَاعَةِ الصِّدِّيقِ وجرأته، فَإِنَّ الشَّجَاعَةَ وَالْجُرْأَةَ حَدُّهُمَا ثُبُوتُ الْقَلْبِ عِنْدَ حُلُولِ الْمَصَائِبِ، وَلَا مُصِيبَةَ أَعْظَمَ مِنْ مَوْتِ النَّبِيِّ -صلى اللّٰه عليه وسلم- كما قال رسول الله -صلى اللّٰه عليه وسلم- : «إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصابه بي، فإنها أعظم المصائب»
وكان الصحابة يتيهون في دَوّامة الإحباط واليأس وخيّم الحزن على كل الصحابة خاصة للخلفاء الراشدين.
أذهل نبأُ الوفاة عمرَ -رضي اللّٰه عنه-، فصار يتوعد وينذر من يزعم أن النبي مات وخرس عثمان واستخفى علي واضطرب الأمر ، فكشف الصديق بهذه الآية حين قدومه من مسكنه بالسُّنح
لم يكن موت النبي -صلی الله علیه وسلم- الكارثة الأولى والأخيرة بل تدفقت الفتن کالفیضان، تفاقم الشر، وقعت المصيبة الكبرى، عقمت الأيام واليالي عن مثلها، وهي فتنة الارتداد التي استطار شررها وعمّ ضررها.
إن أهل الردة كانوا أصنافاً: صنفٌ عادوا إلى عبادة الأوثان والأصنام، وصنفٌ اتبعوا المتنبّئين الكذبة كالأسود العنسي، ومسيلمة، وسجاح، وصنف أنكروا وجوب الزكاة وجحدوها، وصنف لم ينكروا وجوبها ولكنهم أبوا أن يدفعوها إلى أبي بكر.
اختلفت آراء الصحابة في معاملة المرتدين، منهم عمر أشار على الصديق بأن يترك مانعي الزكاة، ويتألفهم حتى يتمكن الإيمان من قلوبهم، ثم هم بعد ذلك يُزكّون، فامتنع الصديق عن ذلك، وأباه، لأن الإيمان أرهف حسه وفهمه، يرى ما لا يراه الآخرون، كما قال الصلابي في كتابه: «كان رأي أبي بكر في حرب المرتدين رأيا ملهما، وهو الرأي الذي تُمليه طبيعة الموقف لمصلحة الإسلام والمسلمين، وأي موقف غيره سيكون فيه الفشل، والضياع والهزيمة والرجوع إلى الجاهلية، ولولا الله، ثم هذا القرار الحاسم من أبي بكر لتغير وجه التاريخ، وتحولت مسيرته، ورجعت عقارب الساعة إلى الوراء، ولعادت الجاهلية تعيث في الأرض فساداً.
کلما تفاقم الشر، ازداد إيمانه وحميته الدينية، ونطق بكلمات تُفحم الآخرين. كما قال السيد الندوي -رحمه اللّٰه-: «لقد تجلى فهمه الدقيق للإسلام، وشدة غيرته على هذا الدين، وبقاؤه على ما كان عليه في عهد نبيه في الكلمة فاض بها لسانه، ونطق بها جنانه، وهي الكلمة التي تساوي خطبة بليغة طويلة، وكتاباً حافلاً، وهي قوله عندما امتنع كثير من القبائل من العرب أن يدفعوا الزكاة إلى بيت المال أو منعوها مطلقا، وأنكروا فرضيتها: قد انقطع الوحي، وتمَّ الدين: «أينقص وأنا حي»
نعم إخواني في الله!
نحن نعيش في زمان أخرج الارتداد رأسه من عشِّه مرة أخرى، يزحف على الإسلام والمسلمين بجنود لا مثيل لها في تاريخ الإسلام، لأنه لا يحمل سلاحاً ويهجم علينا حتى نحمل السلاح علیه ونقاتله، بل أراد أن يغزونا بغير سكين حتى ألا نشعر بالغزو والمقاتلة.
يقول الأستاذ محمد قطب: «إن أول من دعا إلى هذا الأسلوب القوي التأثير لويس التاسع ملك فرنسا الذي وقع أسيراً في أيدي المسلمين وبقي فترة من الزمن في سجن المنصورة في مصر حتى فداه قومه، ففي أثناء تواجُده في السجن بدأ يفكر في طريقة جديدة غير المواجهة العسكرية، واهتدى بعد هذا التفكير إلى أنه لا يمكن أن ينتظروا على المسلمين بالمواجهة العسكرية؛ بل يجب أن يحاربوا عقيدتهم وأفكارهم وتقاليدهم، وعندما عاد إلى باريس بعد خروجه من السجن قال لقومه: «إذا أردتم أن تهزموا المسلمين فلا تقاتلوهم بالسلاح وحده؛ فقد هُزمتم أمامهم في معركة السلاح، ولكن حاربوهم في عقيدتهم فهي مكمن القوة فيهم»
نحن نواجه عدوًا لا تكفيه الأسلحة والقنابل والصواريخ وحدها؛ بل لابد أن نتسلّح بأسلحة الصديق ونصطبغ بصبغته، ونتلقّى منه دروس الإيمان والثبات والشجاعة ولا ننظر إلى من يدعمنا ویُشجِّعنا، بل ننظر إلى العزيز القاهر الغالب الذي بيده ملكوت السماوات والأرض يغير الحالات والمواقف في طرفة عين، كما قال الله عز وجل:
«إِنَّمَا أَمرُهُ إِذَا أَرَادَ شَیئاً أَن یَقُولَ لَهُ كُن فَیَكُونُ». (يس٨٢)

  • نویسنده: نعيم فاضلي