عن عمرَ بنِ الخطاب – رضي الله عنه – قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إنما الأعمال بالنيَّات، وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يُصيبها أو امرأة يَنكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه))؛ رواه الشيخان[2].ثلث الإسلام:أجمع الأئمةُ على جلالةِ […]

عن عمرَ بنِ الخطاب – رضي الله عنه – قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إنما الأعمال بالنيَّات، وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يُصيبها أو امرأة يَنكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه))؛ رواه الشيخان[2].
ثلث الإسلام:
أجمع الأئمةُ على جلالةِ هذا الحديث، وعظيم خَطَره، حتى قال الشافعيُّ وأحمد وغيرهما: إنه ثُلث الإسلام؛ يَعْنون أن الإسلام يَنتظِم أركانًا ثلاثة: عمل الجَنان، وقول اللسان، وفعل الجوارح، أو يريدون أنه أحد الأحاديث الثلاثة التي إليها تُردُّ جميع الأحكام، والثاني: ((من عمِل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو ردٌّ))[3]؛ رواه مسلم عن عائشة، والثالث: ((الحلال بيِّن والحرام بيِّن))[4]، الحديث؛ رواه الشيخان عن النعمان بن بشير – رضي الله عنهما.
تقدير النية والاعتداد بها:
والحديث بعد هذا يرفع شأن النيَّة ويُعلي مكانَها، ويبيِّن أنها من العمل بمنزلة الأُس من البناء، والرُّوح من الجسد، والعِماد من البيت، وإذا قدَّرَت القوانينُ النيَّةَ قدْرَها، وربطت بين آثارها، وأدخلت في الثواب أو العقاب حسابَها، فإنَّ شريعة من الشرائع لم تبلُغ مبلغ الإسلام في تقدير النيَّة والاعتداد بها، وحسْبُك أنه يَهدِر العملَ إذا خلا من النية، ويجعله أو يكاد ضربًا من ضروب اللَّغو أو الخطأ، وهو لا يجزي على واحد منهما، وإن أدَّى بطريق المصادفة إلى غاية حسنة، فإن عاقَب المخطئ إذا أفضى خطؤه إلى ضررٍ، فلتربية اليقظة في النفوس، وتحذيرِها أن تتهاون أو تتغافل حتى تَنحرِف عن الجادة.
من هنا؛ رُفِع القلمُ عن الصبي حتى يبلُغ، وعن المجنون حتى يُفيق، وعن النائم حتى يستيقظ[5]، كما رُفِع عن المخطئ والناسي والمُكْره[6]؛ لأن هؤلاء جميعًا لا نيَّة لهم؛ اللهم إلا الصبي إذا ميَّز فإنه يؤدَّب إذا أساء، ويُكافأ إذا أحسن، وإن تكن نيته دون من بلَغ الحُلُم، على أنَّ الإسلام لم يترك هذا الباب مفتوحًا على مِصْراعَيه، يَلِجه كلُّ مَن تُحدِّثه نفسه بالتخلي عن التَّبِعَة؛ بل وضع شروطًا للخطأ والنسيان والإكراه، تأخذ بتلابيب كل مفترٍ أو مُتَصنِّع[7].
نية المؤمن خير من عمله:
وإذا أردت أن تبلُغ الغايةَ في تقدير الإسلام للنيَّة والاعتداد بها، فانظر إليه إذ يُفضِّل النية المجرَّدة من العمل على العمل المجرَّد من النية، وهذا تأويل الأثر المشهور ((نية المؤمن خير من عمله))[8]؛ وذلك لأن العمل الذي خلا من النية كالصورة لا حياة فيها، والبنيان لا أساس له، فلا خير منه يُرجى، ولا ثمرة له تُرتَقب؛ أما النية الصالحة، فهي تُذكِّي صاحبَها، وتوجِّهه إلى صالح العمل وشيكًا؛ بل هي تُلحِقه بالعاملين المخلصين إن صلَحت، وبالمفسدين إن فَسَدَت، وإن لم يصنع صاحبها شيئًا.
وشاهد هذا ما رواه الترمذي من حديث أبي كَبْشَة الأنماري – رضي الله عنه – عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إنما الدنيا لأربعة نفر: عبدٌ رَزَقه الله مالاً وعِلمًا، فهو يتقي فيه ربَّه، ويَصِل فيه رَحِمه، ويعلم لله فيه حقًّا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله عِلمًا ولم يرزقه مالاً، فهو صادق النيَّة، يقول: لو أنَّ لي مالاً لعمِلتُ بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء، وعبد رزقه مالاً ولم يرزقه علمًا، فهو يخبط في ماله بغير علم، لا يتَّقي فيه ربه، ولا يَصِل فيه رَحِمه، ولا يعلم لله فيه حقًّا، فهذا بأخبثِ المنازل، وعبد لم يرزقه مالاً ولا علمًا، فهو يقول: لو أن لي مالاً لعمِلتُ فيه بعمل فلان، فهو بنيَّته، فوزرهما سواء))[9].
وقد دلَّت صِحاح الآثار على أن مَن اعتاد عملَ خيرٍ أو همَّ به فحبَسَه حابسٌ من مرض أو عُذْر، كتَب الله له ثوابَ ما نوى؛ فمن ذلك ما رواه البخاري عن أبي موسى – رضي الله عنه – قال: قال رسول -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا مرِض العبد أو سافر، كُتِب له مِثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا))[10].
وما رواه البخاري أيضًا عن أنس – رضي الله عنه – قال: رجعنا من غزوة تبوك مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((إن قومًا خلَّفنا في المدينة، ما سلكنا شِعبًا ولا واديًا إلا وهم معنا؛ حبَسهم العُذْر))[11].
وكما يُجزَى العبدُ على الحسنة يَهُم بها فلم يَستطعها، يجزى كذلك على السيِّئة يريدها ثم يكفُّ عنها؛ خشيةَ الله عز وجل [12]، وربما انتظَم بخوفه من الله في سلك الطوائف السبعة التي يُظِلها الله يوم لا ظِلَّ إلا ظله.
اختلاف الجزاء على الأعمال:
ولما كانت النيَّة تختلف قوةً وضعفًا، على حسب منزلة العبد في الإخلاص قُرْبًا وبُعْدًا، اختلف الجزاء على الأعمال قلة وكثرة، حتى جُوزي المُحسِن على الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة لا يعلمها إلا الله – عز وجل.
روى الشيخان عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن تَصدَّق بعَدل تمرة[13] من كسْبٍ طيب، ولا يقبل الله إلا الطيِّب، فإنَّ الله يتقبَّلها بيمينه، ثم يُربيها لصاحبها كما يُربِّي أحدكم فَلُوَّه[14] حتى تكون مِثل الجبل))[15].
وروى النسائي وغيره عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((سَبقَ درهمٌ مائةَ ألف درهم))، فقال رجل: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: ((رجلٌ له مال كثير أخذ من عَرَضه مائة ألف درهم تصدَّق بها، ورجل ليس له إلا درهمان فأخذ أحدهما فتَصدَّق به))[16].
ولعل في هذا الذي أسلفنا بيانًا لفضل النيَّة الصالحة، وأنَّها جوهر العمل ورُوحه، وتلك خلاصة الجملة الأولى: ((إنما الأعمال بالنيات))؛ وتصويرًا صادقًا لجزاء العاملين، وأنه على حسب نيَّاتهم، ومرتبة كلٍّ من الإخلاص، وهم في ذلك درجات، وتلك خلاصة الجملة الثانية: ((لكل امرئ ما نوى)).
جزاء المخلصين والمرائين:
ولما بيَّن – صلوات الله وسلامه عليه – أن الأعمال بحسب النيات، وأن حظَّ العامل من عمله نيته، خيرًا كان العمل أو شرًّا، أوضح جزاء المخلصين والمرائين في مثال من الأعمال التي تتَّحد صورتها ويختلف حُكمُها، والجزاء عليها باختلاف النية فيها إخلاصًا ورياءً، وصلاحًا وفسادًا، وكأنه يقول: إن سائر الأعمال على قياس هذا المثال.
اختيار التمثيل بالهجرة:
واختيار التمثيل بالهجرة؛ لما لها من عظيم الشأن في ذلك العهد، ولعله تَحدَّث الحديث في إبَّان الهجرة من مكة إلى المدينة والدعوة إليها.
يؤيِّد ذلك ما يروى أن رجلاً هاجر من مكة إلى المدينة لا يريد فضيلة الهجرة، وإنما يريد إن يتزوَّج امرأة تُدعى أم قيس[17]؛ فإن صحَّ أن تكون القصة سبب هذا الحديث كما قيل، كان التمثيل بالمرأة مقصودًا له -صلى الله عليه وسلم- جَرْيًا على كريم عادته من التعليم والإرشاد من غير أن يُجابِه أحدًا بما يكره حياءً أو كرمًا؛ وإلا فالقصة من قبيل المصادفة[18] ليس غير.
الهجرة في الإسلام:
وقد وقعت الهجرة في الإسلام على وجهين: أولهما: الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن كما في هجرتَي الحبشة، وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة، والثاني: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان، وذلك بعد أن استقرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة، وهاجر إليها من أمكنه ذلك من المسلمين، وكانت الهجرة إذ ذاك تختصُّ بالانتقال إلى المدينة، إلى أن فُتحت مكة، فانقطع الاختصاص، وبقي عمومُ الانتقال من دار الكفر لمن قدَر عليه واجبًا.
اتِّحاد الجزاء والشَّرط:
واتحاد الجزاء والشَّرط مما يدلُّ على المبالغة في التعظيم أو التحقير، فكأنه – صلوات الله وسلامه عليه – يقول: مَن هاجر لا يبتغي إلا وجه الله – عز وجل – لا أجد له جزاء إلا أن أَكِله إليه – سبحانه – فهو وليه وحسبه ﴿ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [البقرة: 105].
ومن هاجر لا يبتغي إلا دنيا يُصيبها أو شهوة يَقضيها، فحسْبُه ضياعًا وخزيًا أنْ وَكَلَه الله إلى غيره فخَسِر الدنيا والآخرة ﴿ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الحج: 11].
وبعد، فإن مدار الفوز والسعادة على العمل، ومدار العمل على الإخلاص، فمن عجز عن العمل الصالح، فلن يَعجِز عن النية الصالحة، والرغبة الصادقة، ورُبَّ نية فاقت عملاً، ورُبَّ رغبة مهَّدت للخير سُبلاً.
بقلم: الشيخ طه محمد الساكت
المصدر: کتاب من ذخائر السنة النبوية؛ جمعها ورتبها وعلق عليها الأستاذ مجد بن أحمد مكي
منبع: الالوکه