لا شك أن الحديث هو المصدر الثاني للتشريع الإسلامي و قد تعهد الله حفظه و قيّض له رجالاً عبقريين حفظوه من الضياع فنری في سِفر التاريخ من كان صدره مستودع آلاف حديث كالإمام البخاري و مسلم و…، و من له فهم و دراية استنباط المسائل الفقهية من الأحاديث كالأئمة الأربعة الذين شهد العلماء قديماً و […]

لا شك أن الحديث هو المصدر الثاني للتشريع الإسلامي و قد تعهد الله حفظه و قيّض له رجالاً عبقريين حفظوه من الضياع فنری في سِفر التاريخ من كان صدره مستودع آلاف حديث كالإمام البخاري و مسلم و…، و من له فهم و دراية استنباط المسائل الفقهية من الأحاديث كالأئمة الأربعة الذين شهد العلماء قديماً و حديثاً بإمامتهم في الحديث والفقه.
والذي يؤلم قلب كل مسلم و يجرحه أن شرذمة قليلة حديثة ترمي بعضهم كأبي حنيفة بقلة بضاعته في الحديث هل يمكن أن يكون قليل الباع فيه و هو مجتهد، و قد خلف ثروة عظيمة من الفقه ما جمعه تلامذته في كتب المذهب.
و ها أنا أقدم إلی قارئي الكرام في هذه العجالة شيئا من سعة تعلق الإمام بالحديث طلباً و حفظاً و جمعاً و جرحاً و تعديلاً. عسی الله أن ينفع بها الأمة.
عنايته بطلب الحديث
قد شهد له أئمة النقد و كبارالمحدثين بعنايته بطلب الحديث و ارتحاله في ذلك و معاناته في تحصيله.
قال الحافظ الذهبي في ترجمة أبي‌حنيفة من كتابه«سير أعلام النبلاء»(1) «وعُني بطلب الآثارو ارتحل في ذلك». و قال أيضاً(2): « إن الإمام أباحنيفة طلب الحديث و أكثر منه في سنة مئة و بعدها». و قال أيضاً في جزئه الذي صنفه في« مناقب أبي حنيفة في ذكر شيوخه« و سمع الحديث من عطاء بن أبي رباح بمكة و قال : ما رأيت أفضل من عطاء».(3)
قال العلامة عبدالرشيد النعماني رحمه الله:(4) قد فاق الإمام في طلب الحديث علی مشايخ عصره فقد روی الحافظ الذهبي في مناقب أبي حنيفة عن الإمام مسعر بن كدام قال طلبت مع أبي‌حنيفة الحديث فغلبنا و أخذنا في الزهد فبرع علينا و طلبنا الفقه فجاء منه ما ترون.
 و ذكر المورخ و المحدث الحافظ أبوسعد السمعاني في كتابه« الأنساب»(5) في ترجمة الإمام أبي حنيفة رحمه الله «اشتغل بطلب العلم و بالغ فيه حتی حصل له ما لم يحصل لغيره».
عداد الإمام أبي حنيفة في الحفاظ
و قد أطبق الحفاظ الجهابذة المحدثون الذين صنفوا في طبقات الحفاظ علی ذكر الإمام فيهم فهذا الحافظ الذهبي يترجم له في «تذكرة الحفاظ» و يثني عليه و قد قال في مبدأ كتابه:« هذه تذكرة بأسماء معدلي حملة العلم النبوي و من يرجع إلی اجتهادهم في التوثيق و التضعيف و التصحيح و التزييف.(6)
و قال الحافظ محمد بن يوسف الصالحي الشافعي محدث الديار المصرية في عقودالجمان: «كان أبوحنيفة من كبار حفاظ الحديث و أعيانهم و لولا كثرة اعتنائه بالحديث ما تهيأ له استنباط مسائل الفقه و قد ذكره الذهبي في طبقات الحفاظ و لقد أصاب و أجاد.(7)
و قال السيوطي في التعقبات من كبار الحفاظ و ثقة الناس: و ما ضعفه إلّا متعصب.
قال الحسن بن زياد: كان الإمام يروي أربعة آلاف حديث: ألفين عن حماد و ألفين عن سائر المشايخ. قد أخذ الإمام رحمه الله الحديث الكثير من رواته الأعلام حتی جمع منه صناديق.(8)
و قال صدر الأئمة موفق بن أحمد نقلا عن المحدث الكبير بكر بن محمد زرنجري المتوفی512هـ و انتخب أبوحنيفة رحمه الله الآثار من أربعين ألف حديث.
و قال الشيخ الإمام الحافظ الحجة شمس الدين أبو عبدالله محمد المعروف بابن قيم الجوزية الحنبلي في كتابه: «إعلام الموقعين عن رب العالمين»(9)،  « أما طريقة الصحابة و التابعين و أئمة الحديث كالشافعي و الإمام أحمد و مالك و أبي‌حنيفة و أبي يوسف و البخاري و إسحاق… إنه يعد الإمام أباحنيفة من أئمة الحديث. و قال الحاكم أبوعبدالله محمد بن عبدالله النيسابوري في كتابه «معرفة علوم الحديث»(10) ما نصه  «ذكر النوع التاسع والأربعين من معرفة علوم الحديث،هذا النوع من هذه العلوم معرفة الأئمة الثقات المشهورين من التابعين وأتباعهم ممن يجمع حديثهم للحفظ ، والمذاكرة ، والتبرك بهم ، وبذكرهم من المشرق إلى الغرب،فأشار إلی عدد كثير من أعيان كثير من البلاد.
 فمنهم من أهل المدينة : محمد بن مسلم الزهري ، محمد بن المنكدر القرشي و…
 ومن أهل مكة  مجاهد بن جبر، عمرو بن دينار و… و من أهل الشام عبدالرحمن بن عمروالأوزاعي و مكحول و…  ومن أهل الكوفة عامر بن شراحيل و حماد بن أبي سليمان و مسعر بن كدام الهلالي و أبوحنيفة النعمان بن ثابت. قد بدا لک ممّا ذکرت أن العلماء قدیماً وحدیثاً شهدوا بإمامته في الحدیث وإتقان حفظه.
الإمام أبو‌حنيفة من أئمة الجرح و التعديل
إن علم الجرح و التعديل من أصعب العلوم و أخطرها لأن من عدّل بغير تثبّت كان كالمُثْبت حكماً ليس بثابت فيخشی عيله أن يدخل في زمرة من روی حديثاً و هو يظن أنه كذب، و إن جرّح بغير تحرز، أقدم علی الطعن في مسلم بريء من ذلك، و وسم بميسم سوء يبقی عليه عاره أبدا.(11)
و من أجل هذا لم يقم لذلك إلا الجهابذة الناقدون و منهم الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالی. و في ما يلي بعض ما يشير إلی أن له مكانة عالية في هذا العلم.قال الإمام العلامة الحافظ عبدالقادر القرشي رحمه الله تعالی: اعلم: أن الإمام أباحنيفة قد قبل قوله في‌الجرح و التعديل و تلقاه عنه علماء هذا الفن و عملوا به، كتلقيهم عن الإمام أحمد و البخاري و ابن معين و ابن المديني و غيرهم من شيوخ الصنعة و هذا يدلك علی عظمة شأنه، وسعة علمه و سيادته.(12)
فمن ذلك ما رواه الترمذي رحمه الله تعالی في كتاب «العلل» حدثنا محمود بن غيلان عن يحيی الحمّاني سمعت أباحنيفة يقول: ما رأيت أكذب من جابر الجعفي و لا أفضل من عطاء بن أبي رباح.(13)
و قال أبوحنيفة: طلق بن حبيب كان يری القدر و قال أبوحنيفة: زيد بن عياش ضعيف.(14)
و قال أبوحنيفة: قاتل الله جهم بن صفوان و مقاتل بن سليمان، هذا أفرط في‌النفي و هذا أفرط في‌التشبيه.(15)

المنابع و الإرجاعات
 1ـ سير أعلام النبلاء ج6ص392الطبعة الحادية عشرة،1419، مؤسسة الرسالة. 2ـ ج6ص396.
  3ـ مكانة الإمام أبي حنيفة في الحديث ص 17 عبدالرشيد النعماني.دارالبشائر الإسلامیة.  4ـ مكانة الإمام أبي حنيفة في الحديث ص 20.  5ـ ج3ص37المكتبة الشاملة. 6ـ  تذكرة الحفاظ للذهبي ط11سنه1419 هـ ، مؤسسة الرسالة. 7ـ  الحديث و المحدثون/أبوحنيفة كان واسع الاطلاع في الحديث و يعمل به.ص183 محمد بن محمد أبوزهرة، المطبوع مع كتاب تبيض الصحيفة بمناقب الإمام أبي حنيفة للسيوطي، إدارة القرآن و العلوم الإسلامية. 1411هـ.  8ـ أبوحنيفة النعمان الإمام الأئمة الفقهاء،ص7-166. وهبي سليمان غاوجي،دارالتعليم.1420هـ. 9ـ  ج 2ص294،بيروت، دارالجيل.  10ـ ص297-293، دار و مكتبة الهلال، بيروت.ط.1،1409هـ.  11ـ مقدمة كتاب المدخل إلی دراسة علم الجرح و التعديل، مع شیء من التصرف. تأليف عبدالماجد الغوري. دار ابن كثير.ط،1، 1428هـ. 12ـ  مكانة الإمام أبي حنيفة في الحديث.ص 71 للشيخ عبدالرشيد النعماني رحمه الله . 13ـ   المرجع السابق.14ـ   قواعد في علم الحديث.ص152. تأليف العلامة حبيب احمد الكيرانوي. دارالفكر العربي. الطبعة الأولی 1990. 15ـ مكانة الإمام أبي حنيفة في الحديث.ص 73 للشيخ عبدالرشيد النعماني رحمه الله.

عبدالغفار المیرهادی