أردت في هذه المقالة هذه أن أتضوع بذکر ملامح حیاة الإمام المجاهد أبي حنیفة ـ رحمه الله ـ وما أحسن قول الشاعر: أعد ذکر نعمان لنا إن ذکره/ هو المسک کلما کررته یتضوع.(فقد نسب هذا البیت إلی الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ)إن الدافع الذي دفعني لتسوید وجه البیضاء من القرطاس هو أنني رأیت بعض […]

أردت في هذه المقالة هذه أن أتضوع بذکر ملامح حیاة الإمام المجاهد أبي حنیفة ـ رحمه الله ـ وما أحسن قول الشاعر: أعد ذکر نعمان لنا إن ذکره/ هو المسک کلما کررته یتضوع.(فقد نسب هذا البیت إلی الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ)
إن الدافع الذي دفعني لتسوید وجه البیضاء من القرطاس هو أنني رأیت بعض الإخوة من أبناء الأمة یقعون في السلف الصالح بالسبّ والشتم مع أن الواجب علینا أن نکون مؤدبین معهم وننظر إلیهم بعین الاحترام والتکریم ونقدّم لهم الشکر الجزیل ونذکرهم وندعو لهم بالخیر والرحمة حیث حفظوا للأمة الإسلامیّة تراثهم الدیني والإسلامي، وامتنّوا علی الأمة بجهودهم الجبّارة لإرشادهم نحو الصلاح والکمال في الدنیا والآخرة.
فنلقي نظرة عابرة علی الأمة الإسلامیّة وما أتت علیها علی مرّ الدهور وکرّ الزمن، ثمّ نقدّم لمحات من سیرة الإمام الفذّ أبي حنیفة رحمه الله وثناء السلف الصالح علیه.
منذ أمد بعید، أي حینما طفق تهبّ الروائح الإیمانیّة في القرن الأول من طلوع فجر الإسلام، بدأ الحاقدون للإسلام والمسلمین بزرع الخلافات والصراعات بین المسلمین لتشیع الفاحشة فیهم،أنهم أرادوا بهذه المخططات السیئة، والمؤامرات الشنیعة قطع شجرة الإسلام وقمع حصاده ولکن یأبی الله إلا أن یتمّ نوره ولو کره الکافرون. ما زالوا ولا یزالون یسمّمون أفکار شباب الأمة ویغسلون أدمغتهم بأقاویلهم الشیطانیّة ویدسّون السمّ في الدسم ویقدّمون لهؤلاء الشباب فقاموا بتأجیج الفتن بین المسلمین وبذروا بذور الفساد والإلحاد فیهم، و ثأروا وتآمروا علیهم وقعدوا لهم بالمرصاد وغزوهم عسکریًّا وفکریًّا ولم یألوا جهداً في ذلک. وکل هذه المؤامرات مسجّلة في التاریخ کما حدث في القرن الأول حیث استشهد الخلیفة شهید الدارعثمان ـ رضي الله عنه ـ مظلوماً محتسباً في بیته وهو إمام المسلمین في عصره. وکذلک استشهد شهید المحراب سیّدنا عمر رضي الله عنه وسیّدنا علي رضي الله عنه وما حدث في کربلا لریحانة المصطفی صلّی الله علیه وسلّم الخ… وفي القرن الماضي أزالوا الخلافة الإسلامیّة العثمانیّة (للأتراک) وغیر ذلک من المصائب وکل ذلک صدرت من ید عدوّ لدود وحقود وهو الیهود الذي تولّی کبر هذا العدوان والتعدّي والاحتلال، فعلیکم البحث في هذا المجال من ثنایا الکتب التاریخیّة، لأنّ حدیثه یطول في هذا المقال.
والآن ألفت أنظارکم بما تعاني الأمة الإسلامیّة في عصرنا الحدیث من المآسي المریرة والکوارث المفجعة والمصائب المؤلمة التي عکّرت صفو الحیاة الإسلامیّة فتبلّدت في سماءها غیوم مظلمة فقد طال أمدها وکلٌّ ینتظر زوالها، وأصبح الحدیث عن الهدم والتفجیر والتقتیل والتشرید، حدیث المحافل وشغل الناس الشاغل وعنوان أخبار الصحف والقنوات الفضائیّة ساعة وساعة.
واحترقت الأمّة الإسلامیّة في النیران المندلعة ولیس هناک أي محاولة عملیّة بناءة لإنقاذها، وأیضاً ممّا تعانيه الأمّة الإسلامیّة بأجمعها هو بث سموم الحقد والطعن والشتم لصفوة مختارة من رجال هذا الدین الّذین شهد لهم الرسول صلّی الله علیه وسلّم بالخیر حیث قال:«خیر القرون قرني ثمّ الّذین یلونهم ثمّ الّذین یلونهم» {مسند البزار 4508} فهم الذین بذلوا النفس والنفیس والغالي والرخیص في سبیل ما یرضي الله ورسوله، لم یبالوا في أمرهم عدواً، ولم یخافوا في الله لومة لائم، وقالوا کلمة الحق عند سلطان جائر، وذابوا کالشمعة وأضاءوا الدرب للأمة الإسلامیّة ورفعوا ستار الظلام عنهم وعن سائر الناس، فقد ازدهر تاریخنا المجید بجهودهم المبذولة وأثبتوا الجدارة للإسلام، ولعلّنا لا نعدو الحقیقة إن قلنا: أنّ هؤلاء بدور الهدایة، ونجوم الدرایة والروایة، وکأنّهم القناطیر المقنطرة في العلم والأدب والعرفان وهم جسور تربط آخر هذه الأمّة بأولها ومن أراد نقضها فقد نقض الإسلام والمبادي الإسلامیّة.
کل من تتبّع تاریخ الأمم السالفة والقرون الغابرة ما شاهد أمثال هؤلاء الرجال رضي الله عنهم أجمعین فأحسن ما قال الشاعر:
أولئک آبائي فجئني بمثلهم/ إذا جمعتنا یا جریر المجامع
فأولئک الغوّاصون أخرجوا اللؤلؤ والمرجان من مصادر الشریعة (القرآن والسنة) وسهّلوا المشي علی ضوء القرآن والسنّة لأبناء هذه الأمّة، جزاهم الله عنّا وعن سائر المسلمین خیر الجزاء.
من هؤلاء الروّاد بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم الأئمّة الأربعة رحمهم الله وهم الّذین ضحّوا حیاتهم في سبیل نشر الإسلام ومهّدوا الطریق لمستقبل هذه الأمّة کي یسیروا علی نهج قویم عریق تجاه ما یعتري لهم في حیاتهم الفردیّة، والإجتماعیّة، والعبادیّة، والسیاسیّة، وحقّقوا الإیمان في نفوس الشعب الإسلامي بکل معانیه، وسابقوا إلی الخیرات، ومارسوا العمل الصالح بکلّ أنواعه، وحرصوا، وحرّضوا علی أنواع البرّ، وزرعوا حبّ الله ورسوله في قلوب الأمّة الإسلامیّة، وأحیوا جمیع جوانب الحیاة الإسلامیّة، ومالوا عن خوض الشهوات والمیول النفسانیّة وزخارف الحیاة الدنیا، فصاروا قدوة وإماماً في الدین، واقتدی الناس بهم في أمورهم الدنیویّة، والأخرویّة، وما یتعلق بهما.
فالآن نرید أن نعطف عنان القلم إلی جانب آخر هو عرض نبذة من حیاة بطل الحریّة والتسامح النعمان بن ثابت المکنّی بأبي حنیفة ـ رحمه الله ـ بدر من البدور البازغة التي طلعت في خیر القرون وأشرقت ولا یزال تشرق في سماء البشریّة بمساعیه المبارکة وهو بحر زاخر ولا حرج فیما حدّثت عنه.
أبو حنيفة الإمام الأعظم، فقيه العراق، النعمان بن ثابت بن زوطا التيمي مولاهم الكوفي: مولده سنة ثمانين، رأى أنس بن مالك غير مرة لما قدم عليهم الكوفة رواه ابن سعد عن سيف بن جابر أنه سمع أبا حنيفة يقوله. وحدث عن عطاء ونافع وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج وعدي بن ثابت وسلمة بن كهيل وأبي جعفر محمد بن علي وقتادة وعمرو بن دينار وأبي إسحاق وخلق كثير.
تفقه به زفر بن الهذيل وداود الطائي والقاضي أبو يوسف ومحمد بن الحسن وأسد بن عمرو والحسن بن زياد اللؤلؤي ونوح الجامع وأبو مطيع البلخي وعدة. وكان قد تفقه بحماد بن أبي سليمان وغيره وحدث عنه وكيع ويزيد بن هارون وسعد بن الصلت وأبو عاصم وعبد الرزاق وعبيد الله بن موسى وأبو نعيم وأبو عبد الرحمن المقري وبشر كثير وكان إماما ورعا عالما عاملا متعبدا كبير الشأن لا يقبل جوائز السلطان بل يتجر ويتكسب.
قال ضرار بن صرد: سئل يزيد بن هارون أيما أفقه: الثوري أم أبو حنيفة؟ فقال: أبو حنيفة أفقه وسفيان أحفظ للحديث. وقال ابن المبارك: أبو حنيفة أفقه الناس. وقال الشاقعي: الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة. وقال يزيد: ما رأيت أحدًا أورع ولا أعقل من أبي حنيفة. وروى أحمد بن محمد بن القاسم بن محرز عن يحيى بن معين قال: لا بأس به، لم يكن يتهم ولقد ضربه يزيد بن عمر بن هبيرة على القضاء فأبى أن يكون قاضيا. قال أبو داود رحمه الله: إن أبا حنيفة كان إماما.
وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف قال: كنت أمشي مع أبي حنيفة فقال رجل لآخر: هذا أبو حنيفة لا ينام الليل، فقال: والله لا يتحدث الناس عني بما لم أفعل، فكان يحيي الليل صلاة ودعاء وتضرعا. قلت: مناقب هذا الإمام قد أفردتها في جزء. كان موته في رجب سنة خمسين ومائة رضي الله عنه.(1)
منثورات من أقوال العلماء فیه
ذکر الخطیب البغدادي في کتابه قال: أخبرنا البرقاني، حدثنا أبو العباس بن حماد لفظاً، حدثنا محمد بن أیوب، أخبرنا أحمد بن الصیّاح قال:سمعت الشافعي ـ محمد بن إدریس ـ قال: قیل لمالک بن أنس:هل رأیت أباحنیفة؟قال: نعم، رأیت رجلاً لو کلّمک في هذه الساریة أن یجعلها ذهباً لقام بحجته.
أخبرني التنوخي،حدثني أبي، حدثنا محمد بن حمدان، قال: حدثنا أحمد بن الصلت، حدثنا بشر بن الولید، قال: سمعت أبا یوسف یقول: ما رأیت أحداً أعلم بتفسیر الحدیث ومواضع النکت التي فیه من الفقه، من أبي حنیفة.
أخبرنا الصیمري، أخبرنا عمر بن إبراهیم، حدثنا مکرم بن أحمد، حدثنا أحمد بن محمد بن مفلس قال: سمعت محمد بن سماعة یقول: سمعت أبا یوسف یقول: ما خالفت أباحنیفة في شیء قط فتدبّرته إلا رأیت مذهبه الّذي ذهب إلیه أنجی في الآخرة، وکنت ربما ملت إلی الحدیث وکان هو أبصر بالحدیث الصحیح منّي.(2)
قال محمد بن مسعر العوفي: سمعت یحیی بن معین یقول: کان أبو حنیفة ثقة لایحدث إلا بما حفظه.(3)
عن أبي بکر بن عیاش قال:«کان النعمان بن ثابت أفقه أهل زمانه، قال المزني وغیره: سمعت الشافعي، یقول:«الناس عیال علی أبي حنیفة في الفقه.
قال إسحاق بن بهول، سمعت ابن عیینة یقول: «ما مقلت عیني مثل أبي حنیفة».
قال بشر الحافي: قال الخریبي: «ما یقع في أبي حنیفة إلا جاهل أو حاسد».
قال أبو مسلم الکجي، عن محمد بن سعد الکاتب، عن الخریبي، أنه قال: «یجب علی أهل الإسلام أن یدعوا الله لأبي حنیفة في صلاتهم».
وعن مکّي بن إبراهیم، قال: «کان أبوحنیفة أعلم أهل زمانه».
قال یحیی بن معین: سمعت یحیی بن سعید القطان، یقول:لا نکذب الله ما سمعنا أحسن من رأي أبي حنیفة وقد أخذنا بأکثر أقواله».
قال یحیی بن أبي طالب، سمعت علی بن عاصم، یقول:«لو وزن علم أبي حنیفة بعلم أهل زمانه لرجح»
قال ابن حزم: جمیع أصحاب أبي حنیفة مجمعون علی أن في مذهب أبي حنیفة ضعیف الحدیث أولی من القیاس والرأی.(4)
لله درّ الشاعر حیث أنشد:
لقد زانَ الـــبلادَ ومَن عليها/ إمــامُ المسلمين أبو حنــيفَه
بآثارٍ وفقهٍ مــــع حديثٍ/ كآيات الزَبُور على صـــــحيفه
فما هي في المَشــرِقَين له نظيرٌ/ ولا في المغربين ولا بكوفَه
رأيتُ العائبين له سـفاها/ خِلافَ الحق مع حُجَج ضعيفَه
يبيتُ مشمــــرا سهــر الليالي/ وصــام نهاره لله حَيـــفَه
وصان لسـانَه عن كــل إفكٍ/ وما زالت جـــوارِحُه عفيفه
يعِفّ عــــن المَحارِم والمَلاهي/ ومَرضاة الإلــه له وظيفَه
فمن كأبي حنيفة في نداه/ لأهل الفَقر في السنة الجحيفة
وكيـــف يحلّ أن يؤذَى فقيهٌ/ له في الــدين آثارٌ شريفـه
وقد قال ابن إدريسٍ مقالا/ صَحيحَ النَقل في حكمٍ لطيفه
بأنّ الناسَ في فِقهٍ عِيـــالٌ/ على فقه الإمام أبي حنيفَه(5)
قال يحيي كان أبوحنيفة يقوم الليل كله حتی توفي .(6) وكان أبوحنيفة عالما زاهدا عابدا ورعا و تقيا كثيرالخشوع دائم التضرع إلی الله تعالی .(7) وقال علي بن يزيد الصرايي رأيت أباحنيفة ختم القرآن في شهر رمضان ستين ختمة بالليل وستين ختمة بالنهار.(8) وعن أسد بن عمرو قال صلی أبوحنيفة فيما حفظ عليه صلاة الفجر بوضوء صلاة العشاء أربعين سنۀ وكان عامة الليل يقرأ القرآن جميعه في ركعة واحدة و كان يسمع بكاءه باليل حتی يرحمه جيرانه، وحفظ عليه أنه ختم القرآن في الموضع الذي توفي فيه سبعة آلاف مرة .(9) فقد دارالحديث فيما قلت حول المآسي والكوارث التي واجهتها الأمۀ في طريقها عبر سالف الأزمان و الصراع مستمر و النزاع دائم بين الحق والباطل فعانت الأمة من الفتن و النکبات المريرة التي تقشعر منها الجلود ثم ألقيت ضوءً علی حياة عبقرية من الجهابذة الذي تلألأ في سماء العلم و العبادة و صار مناراً و قدوة في اتباع الخير و نشره و هو أبوحنيفة النعمان-أسكنه الله في فسيح جنانه- فأقدم نصحي الخالص لإخواني المسلمين في كل البلاد آملاً أن نجمع شملنا و نكون كرجل واحد و نشد بعضنا أزر بعض و نقوم أمام الأعداء الألداء (الصهیونیة و الشیوعية و الصلیبیة) الذين جرّوا علي الإنسانية الشقاء و ويلات و أن نقدم للسلف الصالح أحسن صلاة و سلام و نسأل الله لهم أعلی الدرجات في أعلی عليين و الفردوس فالأمة في أمسّ الحاجة إلی أن تسعی لإيجاد حلول جذرية لمشاکلها حتی تستطيع مقاومة أعدائها، فإن تنصروا الله ینصرکم و یثبت أقدامکم.

الکاتب: إبراهیم یوسف بور
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1.تذكرة الحفاظ،ج1ص168
2.تاربخ بغداد، ج13ص338
3.تهذيب التهذيب،ج 5 ص630
4.مناقب الإمام أبيحنيفة للذهبي ص29
5.الوافي بالوفيات، ج27 ص92
6.تاريخ بغداد، ج3 ص355
7.وفيات الأعيان، ج3 ص202
8.تاريخ الخميس،ج2 ص328، انظر تاريخ بغداد ج13 ص351
9.الطبقات السنيّه، ج1 ص99، انظر البداية و النهايةج10 ص348