*وحَکَماً فیما شجر بینهم، قال تعالی: «فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا» {النساء:65} وقال تعالی: «إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ» {النساء:105}*وأسوة حسنة لمن کان یرجو الله والیوم الآخر، قال تعالی: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ […]

*وحَکَماً فیما شجر بینهم، قال تعالی: «فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا» {النساء:65} وقال تعالی: «إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ» {النساء:105}
*وأسوة حسنة لمن کان یرجو الله والیوم الآخر، قال تعالی: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا» {الأحزاب:21}
*وأمرنا الله تعالی باتباعه صلّی الله علیه وسلّم، قال تعالی: «فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تهتدون» {الأعراف:158} وقال تعالی: «قل إن کنتم تحبّون الله فاتّبعوني» {آل عمران:31}
*الأخذ بما أتی والانتهاء عمّا نهی، قال تعالی: «وما آتاکم الرسول فخذوه وما نهاکم عنه فانتهوا» {الحشر:7}
*وأوجب علینا في غیر آیة طاعتَه علیه الصلاة والسلام، قال تعالی: «أطیعوا الله وأطیعوا الرسول» {النساء:59} وقال تعالی: «وأطیعوا الله ورسوله» {الأنفال:46} وقال تعالی: «وإن تطیعوه تهتدوا» {النور:54} وقال تعالی: «وأطعن الله ورسوله» {الأحزاب:33} حتّی جعل طاعته صلّی الله علیه وسلّم کطاعته فقال تعالی: «ومن یطع الرسول فقد أطاع الله» {النساء:80}(الإمام ابن ماجة وکتابه السنن ص،23إلی 25)
وکان رسول الله صلّی الله علیه وسلّم مبیّن شرائع الإسلام، أحیاناً بالقول وحده، وأحیاناً بالفعل وحده، وأحیاناً بهما معاً، فکلّ ما قاله صلّی الله علیه وسلّم أو فعله أو حدث أمامه وقرّره حیث سکت علیه سکوت رضاً ولم ینکره کان تشریعاً.
ومتی ثبت ذلک عن رسول الله صلّی الله علیه وسلّم کان في العمل بمنزلة القرآن. (الإمام ابن ماجة وکتابه السنن ص،25إلی26)
ولکن کیفیّة ثبوت الخبر عن رسول الله صلّی الله علیه وسلّم یتفاوت؛ أحیاناً یثبت عن طریق غیر صحیح وأحیاناً یثبت عن طریق صحیح؛ وبالنسبة إلی التفاوت في کیفیّة الثبوت یتفاوت الحکم الثابت منه عند الفقهاء.
واتفق جمهور العلماء علی أنّ شروط الحدیث الصحیح خمسة وهي: اتصال السند، وثبوت عدالة الراوي، وثبوت ضبطه، وسلامة السند والمتن من الشذوذ وسلامتها أیضاً من العلّة القادحة. (أثر الحدیث الشریف)
ما جاء في القرآن ولا السنّة تصریح لهذه الشروط إلا أنّ الله تعالی ألزم التبیّن في خبر الفاسق حیث یقول: «إن جاءکم فاسق بنبأ فتبیّنوا»، فیفهم من هذه الآیة أنّ خبر الفاسق لیس بمردود بالکلّیة بل یجب التحقیق والتبیین في إثبات صحّة خبره وقبوله.
وأیضاً جاء في الحدیث أنّه صلّی الله علیه وسلّم قبِل خبر أعرابيّ حینما أخبر برؤیة الهلال، فسأله صلّی الله علیه وسلّم عن إیمانه، وحینما علم أنّه مؤمن، قَبِل خبره.
وأمّا الصحابة، فثبت عن سیّدنا عمر رضي الله عنه أنّه في البدایة کان لا یقبل الحدیث عن أحد إلا إذا جاء بشاهدین یشهدان بصحّة حدیثه، وعن عائشة وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم أجمعین أنّهم کانوا یردّون حدیث من کان لا یوافق حدیثه قواعد الشریعة وأصولهم.
فقد روی ابن ماجة في سننه (1/163، کتاب الطهارة، باب الوضوء ممّا غیّرت النار) عن أبي هریرة: أنّ النبيّ صلی الله علیه وسلّم قال: توضّؤوا ممّا غیّرت النار، فقال ابن عباس: أتوضّأ من الحمیم؟{أي الماء الساخن} فقال له: یا ابن أخي، إذا سمعت عن رسول الله صلّی الله علیه وسلّم حدیثاً فلا تضرب له الأمثال.
فعبد الله ابن عباس حبر هذه الأمّة یردّ حدیث رسول الله صلّی الله علیه وسلّم الّذي رواه واحدٌ لمخالفة هذا الحدیث قواعد الشریعة علی أصوله.
وهکذا فعل ابن عمر رضي الله عنهما: روی الإمام الطحاوي في شرح معاني الآثار{1/69}عَن ْسَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ،عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:مَا تَقُولُ فِي الْوُضُوءِ مِمَّا غَيَّرَتِ النَّارُ؟ قَالَ: تَوَضَّأْ مِنْهُ، قَالَ: فَمَا تَقُولُ فِي الدُّهْنِ وَالْمَاءِ الْمُسَخَّنِ، يُتَوَضَّأُ مِنْهُ؟ فَقَالَ: أَنْتَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ دَوْسٍ . قَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، لَعَلَّكَ تَلْتَجِئُ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ «بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ »[الزخرف: 58]
وأخرج أحمد في مسنده عن أبي حسان الأعرج: أنّ رجلین دخلا علی عائشة، فقالا: إنّ أباهریرة یحدّث:أنّ نبي الله صلّی الله علیه وسلّم کان یقول: إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار، قال: فطارت شقة منها في السماء وشقة في الأرض، فقالت: والذي أنزل القرآن على أبي القاسم ما هكذا كان يقول ولكن نبي الله صلى الله عليه و سلم كان يقول: كان أهل الجاهلية يقولون: الطيرة في المرأة والدار والدابة.( الإمام ابن ماجة وکتابه السنن ص38)
فهؤلاء فقهاء الصحابة یردّون خبر الواحد عن رسول الله صلّی الله علیه وسلّم لأجل عدم موافقة الخبر قواعد الشریعة علی أصولهم، وإن کان راویه ثقة وسنده متّصلاً؛ أمّا هذه الشروط الخمسة فقد وقع الاختلاف بین المحدّثین في کیفیّة تحقق هذه الشروط.
1ـ أمّا الاتصال: فقد اختلف المحدّثون في تحقّق الاتصال وذلک في المسألة المعروفة عندهم بمسألة اللقاء بین الراوي وشیخه، فالإمام البخاري وغیره یشترطون ثبوت اللقاء بینهما ولو مرةً واحدةً والإمام مسلم وغیره ـ بل ادعی مسلم الإجماع علی قوله(مقدمة صحیح مسلم1/130 بشرح النووي علیه) ـ یشترطون إمکان اللقاء بینهما لا ثبوته.
وعلی هذا فما یصحّحه مسلم ومن معه بناءً علی هذا المفهوم للاتّصال، لا یعتبره البخاري صحیحاً؛ ومن یذهب مذهب مسلم في شرط الاتصال من الفقهاء قد یحتجّ بحدیث اتصاله کهذا الاتصال ویقول: قد صحّ الحدیث في هذا الحکم، في حین أنّ غیره من العلماء الّذین یذهبون مذهب البخاري یخالفونه ولا یعتبرونه صحیحاً، وبالتالي لا یعتبرونه حجّة یستنبط منه أحکام فقهیّة وکلّ ما بني علیه من أحکام فهو منقوض عندهم، وممّا یتعلّق بأمر الاتصال أیضاً ـ ودائرة الاختلاف تتّسع أکثر من المثال السابق ـ الحدیث المرسلُ.
فالمرسل ـ وهو ما أضافه التابعي إلی رسول الله صلّی الله علیه وسلّم ـ غیر متّصل، ولکن هل یضرّه عدم اتّصاله ویخرجه عن دائرة الاحتجاج به؟
ذهب جمهور المحدّثین إلی أنّ الحدیث المرسل ضعیف غیر حجّة، وذهب جمهور الفقهاء ـ منهم الأئمّة أبوحنیفة ومالک وأحمد في إحدی الروایتین عنه ـ إلی أنّ الإرسال لا یضرّ، فالمرسل عندهم حجّة یُعمل به.
وتوسّط الحکم بین الطرفین الإمامُ الشافعي، فاعتبره ضعیفاً ضعفاً یسیراً، فإذا عرض له أحد المؤیّدات الأربعة صار حجّة عنده ـ والمؤیّدات هي: أن یروی مسنداً، أو مرسلاً من وجه آخر، أو یفتي به بعض الصحابة، أو أکثر أهل العلم ـ.
وعلی هذا: فالحکم الفقهي الّذي یقول به الأئمّة الثلاثة أو أحدهم ویحتجّ له بحدیث مرسل ولم یتأیّد بواحد من المؤیّدات الأربعة: یخالفه الشافعي کما یخالفه جمهور المحدّثین أیضاً، ولیست الأحادیث المرسلة بالعدد الیسیر! قال العلّامة العلاء البخاري رحمه الله{في شرحه علی أصول البزدوي3/5}: وفیه ـ أي في ردّ المرسل ـ تعطیل کثیر من السنن. بل قال العلّامة الکوثري رحمه الله: من ضعّف الحدیث بالإرسال نبذ شطر السنّة المعمول بها.(تأنیب الخطیب ص153)
2 ـ أمّا ثبوت عدالة الراوي: فههنا مهیع واسع جداً ومجال رحب للاختلاف، فقد اختلفوا في نوعیّة العدالة المطلوب ثبوتها:
ـ هل یکتفی بکون الراوي مسلماً لم یثبت فیه جرح، فیحکم له حینئذ بالعدالة؟
ـ أو یشترط أن یضاف إلی ذلک ثبوت عدالته الظاهرة فیکتفی بذلک؟ ویسمّی حینئذ مستوراً.
ـ أو لا بدّ من ثبوت عدالته الظاهرة والباطنة؟
ـ کما اختلفوا: هل یکتفی بتعدیل إمام واحد؟ أو لا بدّ من تعدیل إمامین لکلّ راو؟
ـ یضاف إلی الاختلاف في هذه النقاط: الاختلاف في الأمر الّذي یصلح أن یُعتبَر جارحاً مُسقِطاً لعدالة المسلم.
(ففي کلّ ما قیل، اختلاف بین العلماء وبسببه یصیر الحدیث ضعیفاً عند البعض وصحیحاً عند الآخرین، فلا یمکن الجزم في کلّ راو بأنّه ثقة أو ضعیف أو غیر ذلک؛ لأنّ کثیراً من الرواة اختلف قول العلماء في جرحهم وتعدیلهم.) ومن یعدِّله إمام من الأئمّة قد یجرحه إمام آخر، والرجال المتّفق علی عدالتهم أو ضعفهم أقلّ من الرواة المختلف فیهم بکثیر.
ثمّ إنّ الراوي الواحد المختلف فیه قد یکون له عشرات الأحادیث، فمن مال إلی تعدیله، احتجّ بجمیع الأحکام المستفادة من مرویّاته، ومن مال إلی جرحه: لا یحتجّ بها.
فلا یعلم حال الرواة إلا من له مهارة في تاریخ الجرح والتعدیل وفقه الجرح والتعدیل ودخائل الجرح والتعدیل ورسومه وألفاظه، وهذه الأمور لا یدرکها إلا من حذِق هذا العلم.
3ـ وکذلک الاختلاف في تحقّق الشروط الأخری للحدیث الصحیح
ویحسن التنبیه إلی شرط في ثبوت ضبط الراوي، اشترطه الإمام أبو حنیفة رحمه الله؛ هو استمرار حفظ الراوي لحدیثه من حین تحمّله إلی حین أدائه دون أن یتخلّله نسیان له(شرح مسند أبي حنیفة للقاري ص3) وهذا شرط شدیدٌ، حمله علیه ما شهده من اضطراب الرواة وتصرّفهم، وبحکم هذا الشرط سیختلف مع غیره في تضعیف بعض الأحادیث وتصحیح غیره لها.(مأخوذ من درة یتیمة الشیخ محمد عوّامة حفظه الله: أثر الحدیث الشریف في اختلاف الفقهاء من صفحة29 إلی 33)
فلیس بمیسور في کلّ حدیث معرفة أنه متواتر أو غیر متواتر وصحیح أو حسن أو ضعیف، کما یظنّ کثیر من الناس الّذین بسبب جهلهم في العلوم الدینیّة المختلفة یتجرؤون في روایة الحدیث والاستنباط من بعض الأحادیث وردّ بعض أخر منها.
الحدیث الضعیف
اتفق العلماء علی أنّ الحدیث إذا بلغ رتبة الصحّة أو الحسن کان صالحاً للعمل والاحتجاج به في الأحکام الشرعیّة، أمّا الحدیث الضعیف: فذهب جمهورهم ـ بل جماهیرهم ـ إلی العمل به في الفضائل والمستحبّات بشروطه المسوّغة لذلک، لکن ذهب بعض الأئمّة إلی العمل بالحدیث الضعیف في الأحکام الشرعیّة: الحلال والحرام، حتّی أنّهم قدّموه علی القیاس وهذا مذهب الأئمّة الثلاثة من المجتهدین: أبي حنیفة، ومالک، وأحمد وهو مذهب جماعة من أئمّة المحدّثین أیضاً کأبي داود والنسائي وأبي حاتم. لکن بشرطین: أن لا یشتدّ ضعفه وأن لا یوجد في المسألة غیره وهذا مذهب ابن حزم أیضاً.(أثر الحدیث الشریف36)
إذا صحّ الحدیث فهو مذهبي
شبهتان تعیشان في أذهان کثیر من الناس، هما:
ـ إذ صحّ الحدیث فهو مذهبي.
ـ صحّة الحدیث کافیة للعمل به.
یعني إذا وجدنا حدیثاً صحیحاً مثلاً في الصحیحین أو في أيّ کتاب أخر من کتب الحدیث فإذا عملنا به هل عملنا بسنّة ثابتة من رسول الله صلّی الله علیه وسلّم وأیضاً لم نخرج عن مذهب إمام معتبر من الأئمّة المجتهدین؟
والجواب أن نقول: إنّ کلمة: « إذا صحّ الحدیث فهو مذهبي» قالها الإمام الشافعي وغیره من الأئمّة، بل هي لسان حال کلّ مسلم عقل معنی قول لا إله إلا الله محمد رسول الله.
أمّا حقیقة هذا الکلام أنّ مراد الأئمّة من قولهم: إذا صحّ الحدیث فهو مذهبي، یعني إذا صلح الحدیث للعمل فهو مذهبي، وهذا إذا صحّ في مسألة، الخبر بلا معارض فهو مذهب للمجتهد وإن لم ینصّ علیه؛ ولا یخفی أنّ ذلک لمن کان أهلاً للنظر في النصوص ومعرفة محکمها من منسوخها(حاشیة ابن عابدین1/68)
وأمّا ما کان في بدایة الأمر سنّة ثمّ نسخت سنّیته وأحکم غیره وصار سنّة في نهایة الأمر، فالناسخ هو السنّة الثابتة لا المنسوخ، وأحیاناً لا یجوز العمل بالسنّة الثابتة من النصّ المنسوخ وإن کان صحیحاً بل یحرم العمل به وأحیاناً یکفر محلّله، مثل النصوص الّتي تدلّ علی حلّة شرب الخمر وأکل الربوا في بدایة الأمر، فمن أحلّ شرب الخمر وأکل الربوا مستدلّاً بالآیات والأحادیث الصحیحة المنسوخة الّتي تدلّ علی هذا الأمر فهو کافر بإجماع أهل السنّة وإن کان استدلّ بالنصوص الصحیحة ولکن لکونها منسوخة لا یقبل عذره.
فکثیر من الأحادیث هکذا حالها، یعني کثیر من الأحادیث هي صحیحة من حیث الصناعة الحدیثیّة لکن هي منسوخة وتوجد غیرها أو خلافها أحادیث هي ناسخة ومحکمة ولا یعلم هذا إلا من کان أهلاً للنظر في النصوص ومعرفة محکمها من منسوخها.
کما قال العلّامة المفسّر المحدّث الفقیه فضیلة الشیخ عبد الغفار عیون السود الحمصي الحنفي رحمه الله في رسالته الماتعة «دفع الأوهام عن مسألة القراءة خلف الإمام{ص69}» قال: نری في زماننا کثیراً ممّن یُنسب إلی العلم مغترّاً في نفسه، یظنّ أنّه فوق الثریّا وهو في الحضیض الأسفل، فربما یطالع کتاباً من الکتب الستّة ـ مثلاً ـ فیری حدیثاً مخالفاً لمذهب أبي حنیفة فیقول: اضربوا مذهب أبي حنیفة علی عُرض الحائط، وخذوا بحدیث رسول الله صلّی الله علیه وسلّم، وقد یکون هذا الحدیث منسوخاً أو معارضاً بما هو أقوی منه سنداً أو نحو ذلک من موجبات عدم العمل به، وهو لا یعلم بذلک، فلو فُوِّض لمثل هؤلاء العمل بالحدیث مطلقاً لضلّوا في کثیر من المسائل وأضلّوا من أتاهم من سائل.(أثر الحدیث الشریف 61ـ 62)
یقول الشیخ العلّامة محمد عوّامة حفظه الله:
هنا تثور ثائرة أدعیاء الدعوة إلی العمل بالسنّة فیقولون: هل یجوز لکم أن تحکموا بالضلال علی من یعمل بالسنّة ویفتي الناس بها؟! فنقول: نعم إذا لم یکن أهلاً لهذا المقام، فحُکمُنا علیه بالضلال لا لعمله بالسنّة ـ معاذ الله ـ بل لتجرّئه علی ما لیس أهلاً له.
ولأنّه جعل المنسوخ سنّة ثابتة محکمة ولأنّه أصرّ علی ما ترکه النبيّ صلّی الله علیه وسلّم، وهذا بسبب جهله دقائق العلوم وهو یری نفسه عالماً بل أعلم من الأئمّة المجتهدین الّذین هذا یردّ کلامهم.
قال الإمام أبو محمّد عبد الله بن وهب المصري الّذي صنّف مائة ألف وعشرین ألف حدیث: الحدیث مَضِلّة إلا للعلماء، وقال الإمام ابن أبي زید القیرواني رحمه الله: قال ابن عیینة: الحدیث مَضلّة إلا للفقهاء، یرید: أنّ غیرهم قد یحمل شیئاً علی ظاهره وله تأویل من حدیث غیره، أو دلیل یخفی علیه، أو متروک أوجب ترکَه غیر شيء، ممّا لا یقوم به إلا من استبحر وتفقّه. (أثر الحدیث الشریف63)
فإن قیل: فما مراد الأئمّة من تقریر هذه الکلمة وما شابهها؟
فالجواب:حقیقة هذه الأقوال هو إظهار الحقیقة الواقعة بأنّ الحجّة هو قول رسول الله صلّی الله علیه وسلّم لا قولي، فلا تظنّوا قولي حجّة مستقلّة، وأنا أبرأ إلی الله ممّا قلته خلاف رسول الله صلّی الله علیه وسلّم.(مقدمة إعلاء السنن للعلّامة الکیرانوي نقلاً عن أثر الحدیث الشریف75)
ولیس مرادهم أنّ کلّ حدیث قال فیه کلّ قائل: حدیثٌ صحیح، فهو مذهبي، فکم من قائل یظنّ نفسه متبحّراً في الحدیث وهو لا یعرف الرطب والیابس، ومن یجهل خطورة شيء ودقائقه یجترئ فیه، کالطفل الّذي لا یعرف خطر الکهرباء فهو یأخذ السلک أو کمن لا یعرف خطر الدواء فهو یظنّ الحبّ صغیراً فیجترئ في أکل کلّ حبّ، أمّا الماهر والطبیب فیحتاط بسبب علمه بالدقائق والخطورة؛ ولکلّ میدان رجاله ولا یجوز لإنسان أن یتعدّی طوره.
صحّة الحدیث کافیة للعمل به؟
صحّة الحدیث معناه صلاحیة الحدیث للعمل، وصلاحیته للعمل تکون بعد استکمال سنده ومتنه وشروطاً کثیرة جداً، منها الشروط الحدیثیّة ومنها الشروط الأصولیّة ولیس الأمر موقوفاً علی النظر في رجال إسناده.
فلیس کلّ حدیث صحیح یؤخذ به ویعمل به، کما روی ابن أبي خیثمة في شرح علل الترمذي وأبو نعیم في الحلیة عن إبراهیم النخعي أنّه قال: إنّي لأسمع الحدیث فأنظر إلی ما یؤخذ به فآخذ به وأدع سائره.
وروی الإمام الحافظ ابن عبد البر رحمه الله بسنده إلی القاضي المجتهد ابن أبي لیلی رحمه الله أنّه قال: لا یفقه الرجل في الحدیث حتّی یأخذ منه ویدع.
وروی أبو نعیم أوّل ترجمة الإمام أمیر المؤمنین في الحدیث عبد الرحمن بن مهدي أنّه قال: لا یجوز أن یکون الرجل إماماً حتّی یعلم ما یصحّ وما لا یصحّ وحتّی لا یحتجّ بکلّ شيء وحتّی یعلم بمخارج العلم.
وروی ابن عساکر عن ابن وهب أنّه قال: لو لا مالک بن أنس واللیث بن سعد لهلکت؛ کنت أظنّ أنّ کلّ ما جاء عن النبي صلّی الله علیه وسلّم یُفعل به، وفي روایة لضللت یعني:لاختلاف الأحادیث، قال الکوثري: کما یقع لکثیر من الرواة البعیدین عن الفقه غیر الممیّزین، قارن العمل به عمّا سواه.
ولفظ روایة القاضي عیاض رحمه الله: قال ابن وهب: لو لا أنّ الله أنقذني بمالک واللیث لضللت، فقیل له: کیف ذلک؟ قال: أکثرت من الحدیث فحیّرني، فکنت أعرض ذلک علی مالک واللیث فیقولان لي: خذ هذا ودع هذا. وابن وهب هذا من صنّف مائة ألف وعشرین ألف حدیث.
قال الحاکم في المستدرک{1/226}:لعلّ متوهّماً یتوهّم أن لا معارض لحدیث صحیح الإسناد، آخر صحیح وهذا المتوهّم ینبغي أن یتأمّل کتاب الصحیح لمسلم حتّی یری من هذا النوع ما یملّ منه.
من هنا قال الإمام سفیان الثوري منبّهاً ومتخوّفاً من هذه الحیرة: تفسیر الحدیث خیر من سماعه؛ وقال الإمام أبو علي النیسابوري:الفهم عندنا أجلّ من الحفظ.
وفي الفقیه والمتفقه: أنّ رجلاً سأل ابن عقدة عن حدیث، فقال له: أقلوا من هذه الأحاديث، فإنها لا تصلح إلا لمن علم تأويلها، فقد روى يحيى بن سليمان، عن ابن وهب، قال: سمعت مالكاً يقول: كثيرمن هذه الأحاديث ضلالة، لقد خرجت مني أحاديث لوددت أني ضربت بكل حديث منها سوطين، وإني لم أحدث به.
وعلّق هنا العلّامة الشیخ إسماعیل الأنصاري بقوله: إنّما هذا بالنسبة لمن یضعها غیر مواضعها وإلا فالهدایة في سنّة النبي صلّی الله علیه وسلّم، قال الله تعالی: واتبعوه لعلّکم تهتدون» لکن من یضع الشيء في غیر موضعه یضلّ ولذلک سمّی الله تعالی سنّة النبي صلّی الله علیه وسلّم في کثیر من الآیات الکریمة بـ:«الحکمة» والحکمة وضع الشيء في موضعه.
وفي الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطیب البغدادي{2/109}، قال الشافعي:قیل لمالک بن أنس: إن عند ابن عیینة عن الزهري أشیاء لیست عندک! فقال مالک: وأنا کلّ ما سمعته من الحدیث أحدث به؟ أنا إذاً أرید أن أضلّهم.
قال الشیخ محمد عوّامة: فالتفقّه في السنّة علی أیدي الأئمّة الفقهاء ومائدتهم منجاة من الزیغ والضلال بشهادة هذین الإمامین: ابن عیینة وابن وهب.
قال ابن وهب رحمه الله: کلّ صاحب حدیث لیس له إمام في الفقه فهو ضالٌّ.
قال ابن أبي زید في کتاب الجامع{ص117} وهو یعدّد عقائد أهل السنّة والحقّ وهدیهم: والتسليم للسنن لا تُعارَض برأي، ولا تُدافَع بقياس، وما تأوّله منها السلف الصالح تأوّلناه وما عملوا به عملناه وما تركوه تركناه، ويسعنا أن نمسك عما أمسكوا ونتبعهم فيما بيّنوا ونقتدي بهم فيما استنبطوه ورأوه في الحوادث ولا نخرج من جماعتهم فيما اختلفوا فيه أو في تأويله. وكل ما قدمنا ذكره فهو قول أهل السنة وأئمة الناس في الفقه والحديث على ما بيّنّاه وكلُّه قول مالك، فمنه منصوص من قوله، ومنه معلوم من مذهبه.
(أکثر هذا البحث مأخوذ من کتاب أثر الحدیث الشریف مع تصرف)
قرار رقم: 56 (9/10) القرار التاسع بشأن موضوع الخلاف الفقهي بين المذاهب والتعصب المذهبي من بعض اتباعها.
« الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم
أما بعد:
فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته العاشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من يوم السبت 24 صفر 1408هـ الموافق 17 أكتوبر 1987م إلى يوم الأَربعاء 28 صفر 1408 هـ. الموافق 21 أكتوبر 1987م قد نظرَ في موضوع الخلاف الفقهي بين المذاهب المتبعة… .
واستعرض المجلس المشكلات التي تقع في عقول الناشئة العصرية وتصوراتهم حول اختلاف المذاهب الذي لا يعرفون مبناه ومعناه، فيوحي إليهم المضللون بأَنّه مادام الشرع الإسلامي واحداً وأصوله من القرآن العظيم والسُّنة النبوية الثابتة متحدة أيضا، فلماذا اختلاف المذاهب؟ ولمَ لا تُوحَّد حتى يصبح المسلمون أمام مَذهب واحد، وفهم واحد لأحكام الشريعة؟كما استعرض المجلس أيضا أمر العصبية المذهبية والمشكلات التي تنشأ عنها، ولاسيما بين أتباع بعض الاتجاهات الحديثة اليوم في عصرنا هذا، حيث يدعو أَصحابها إلى خط اجتهادي جديد، ويطعنون في المذاهب القائمة التي تلقتها الأمَّة بالقبول من أقدم العصور الإسلامية، ويطعنون في أَئمتها أو بعضهم ضلالا، ويوقعون الفتنة بين الناس.
وبعد المداولة في هذا الموضوع ووقائعه وملابساته ونتائجه في التضليل والفتنة، قرّر المجمع الفقهي توجيه البيان التالي إلى كلا الفريقين: المضللين والمتعصبين؛ تنبيهاً وتبصيرا:
… وأَما الثاني: وهو اختلاف المذاهب الفقهية في بعض المسائل فله أَسباب علمية اقتضته، ولله سبحانه في ذلك حكمة بالغة ومنها الرحمة بعباده وتوسيع مجال استنباط الأَحكام من النصوص، ثم هي بعد ذلك نعمة وثروة فقهية تشريعية تجعل الأمة الإسلامية في سعة من أَمر دينها وشريعتها، فلا تنحصر في تطبيق شرعي واحد حصراً لا مناص لها منه إلى غيره، بل إذا ضاق بالأمة مذهب أَحد الأَئمة الفقهاء في وقت ما أو في أَمر ما وجدت في المذهب الآخر سعة ورفقاً ويسراً، سواء أَكان ذلك في شؤون العبادة أَم في المعاملات وشؤون الأسرة والقضاء والجنايات على ضوء الأدلَّة الشرعية، فهذا النوع الثاني من اختلاف المذاهب، وهو الاختلاف الفقهي، ليس نقيصة ولا تناقضاً في ديننا، ولا يمكن أَن لايكون، فلا يوجد أُمة فيها نظام تشريعي كامل بفقهه واجتهاده ليس فيها هذا الاختلاف الفقهي الاجتهادي.
فالواقع أَن هذا الاختلاف لا يمكن أَن لا يكون؛ لأن النصوص الأَصلية كثيراً ما تحتمل أَكثر من معنى واحد، كما أَنَّ النص لا يمكن أَن يستوعب جميع الوقائع المحتملة؛ لأن النصوص محدودة، والوقائع غير محدودة، كما قال جماعة من العلماء رحمهم الله تعالى، فلابد من اللجوء إلى القياس، والنظر إلى علل الأَحكام، وغرض الشارع، والمقاصد العامة للشريعة، وتحكيمها في الواقع والنوازل المستجدة، وفي هذا تختلف فهوم العلماء وترجيحاتهم بين الاحتمالات، فتختلف أَحكامهم في الموضوع الواحد، وكل منهم يقصد الحق ويبحث عنه، فمن أَصاب فله أَجران، ومن أَخطأ فله أَجر واحد، ومن هنا تنشأ السعة ويزول الحرج.
فأَين النقيصه في وجود هذا الاختلاف المذهبي الذي أَوضحنا ما فيه من الخير والرحمة؟ وأَنه في الواقع نعمة ورحمة من الله بعباده المؤمنين، وهو في الوقت ذاته ثروة تشريعية عظمى، ومزية جديرة بأَن تتباهى بها الأمَّة الإسلامية، ولكن المضللين من الأَجانب الذين يستغلون ضعف الثقافة الإسلامية لدى بعض الشباب المسلم ولاسيما الذين يدرسون لديهم في الخارج، فيصورون لهم اختلاف المذاهب الفقهية هذا كما لو كان اختلافاً اعتقادياً؛ ليوحوا إليهم- ظلماً وزوراَ- بأَنَّه يدل على تناقض الشريعة، دون أَن ينتبهوا إلى الفرق بين النوعين، وشتَّان ما بينهما.
ثانيا: وأما تلك الفئة الأخرى التي تدعو إلى نبذ المذاهب، وتريد أَن تحمل الناس على خط اجتهادي جديد لها، وتطعن في المذاهب الفقهية ومزايا وجودها وأَئمتها أو بعضهم، ففي بياننا الآنف عن المذاهب الفقهية ومزايا وجودها وأَئمتها ما يوجب عليهم أَن يكفوا عن هذا الأسلوب البغيض الذي ينتهجونه، ويضللون به الناس ويشقون صفوفهم، ويفرقون كلمتهم، في وقت نحن أَحوج ما نكون إلى جمع الكلمة في مواجهة التحديات الخطيرة من أَعداء الإسلام، بدلاً من هذه الدعوة المفرقة التي لا حاجة إليها.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما كثيراً والحمد لله رب العالمين « انتهى.

الکاتب:علي رسولي