و«علی» کلمة إیجاب. والثاني: أنه قال: «ومن کفر»(4) قیل في التأویل: ومن کفر بوجوب الحج، حتّی روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أي: ومن کفر بوجوب الحج فلم یر حجه برّاً ولا ترکه مأثماً، وقوله تعالی لإبراهیم ـ علیه الصلاة والسلام ـ: «وأذّن في الناس بالحج» قیل: أي: ادع الناس، ونادهم إلی […]

و«علی» کلمة إیجاب. والثاني: أنه قال: «ومن کفر»(4) قیل في التأویل: ومن کفر بوجوب الحج، حتّی روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أي: ومن کفر بوجوب الحج فلم یر حجه برّاً ولا ترکه مأثماً، وقوله تعالی لإبراهیم ـ علیه الصلاة والسلام ـ: «وأذّن في الناس بالحج» قیل: أي: ادع الناس، ونادهم إلی حج البیت، وقیل: أي؛ أعلِم الناس أن الله فرض علیهم الحج، دلیله قوله تعالی:«یأتوک رجالاً وعلی کل ضامر».
وأما السنّة، فقوله صلّی الله علیه وسلّم: «بني الإسلام علی خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإیتاء الزکاة، والحج، وصوم رمضان»(5) وقوله صلی الله علیه وسلّم:«اعبدوا ربکم، وصلّوا خمسکم، وصوموا شهرکم، وحجّوا بیت ربکم، وأدّوا زکاة أموالکم طیّبة بها أنفسکم تدخلوا جنة ربکم»(6) وروي عنه علیه الصلاة والسلام أنه قال:«من لم یمنعه عن الحج حاجة ظاهرة، أو سلطان جائر، أو مرض حابس، فمات ولم یحج، فلیمت إن شاء یهودیّاَ، وإن شاء نصرانیّاً».(7)
وأمّا الإجماع، فلأنّ الأمّة أجمعت علی فرضیته، وأما المعقول فهو أن العبادات وجبت لحق العبودیّة، أو لحقّ شکر النعمة؛ إذ کل ذلک لازم في العقول، وفي الحج إظهار العبودیّة وشکر النعمة.
وأما کیفیّة فرضه، فمنها أنّه فرض عین لا فرض کفایة، فیجب علی کل من استجمع فیه شرائط الوجوب عیناً لا یسقط بإقامة البعض عن الباقین، بخلاف الجهاد؛ فإنه فرض کفایة إذا قام به البعض سقط عن الباقین.
ومنها؛ أنّه لا یجب في العمر إلا مرّة واحدة، بخلاف الصلاة والصوم والزکاة.(8)
الحج هو مظهر عشق الإلهي:
إنّ صلة هذا الإنسان بربّه، لیست صلة قانونیّة، عقلیّة فحسب، یقوم بواجباته ویدفع ضرائبه، ویخضع أمامه، ویطیع أوامره وأحکامه، إنّما هي صلة حبّ وعاطفة کذلک، صلة لابدّ أن یرافقها، ویقترن بها، ویتحکم فیها حنان وشوق، وهیام ولوعة، وتفانٍ وتهالک، والدین لا یمنع من ذلک، بل یدعو إلیه، ویغذیه ویقوّیه.(9)
یقول الغزّالي:« فالشوق إلى لقاء الله عز وجل يشوقه إلى أسباب اللقاء لا محالة، هذا مع أن المحب مشتاق إلى كل ما له إلى محبوبه إضافة والبيت مضاف إلى الله عز وجل فبالحري أن يشتاق إليه لمجرد هذه الإضافة فضلاً عن الطلب لنيل ما وعد عليه من الثواب الجزيل».(10)
ویردفه شیخ الإسلام أحمد بن عبدالرحیم الدهلوي، فیشیر إلی نفس النکتة، ویجعلها حکمة النفس الأساسيّ، فیقول:«وربما یشتاق الإنسان إلی ربّه أشد شوق، فیحتاج إلی شيء یقضي به شوقه فلا یجد إلا الحج»(11)
«واعلم أنّک في الظاهر ترمي الحصی إلی العقبة، وفي الحقیقة ترمي به وجه الشیطان، وتقصم به ظهره، إذ لا یحصل إرغام أنفه إلا بامتثالک أمر الله سبحانه وتعالی تعظیماً له بمجرّد الأمر من غیر حظ للنفس والعقل فیه».
ویقول في الذبح: «فاعلم أنّک تقرب إلی الله تعالی بحکم الامتثال، فأکمل الهدي، وارجُ أن یعتق الله بکلّ جزء منه جزءاً منک من النار، فهکذا ورد الوعد، فکلّما کان الهدي أکبر وأجزاؤه أوفر، کان فداؤک من النار أعم».(12)
أسرار الحج
والحج انتصار للقومیّة الإسلامیّة علی القومیّات الوطنیّة والعنصریّة واللسانیة التي قد یصبح بعض الشعوب الإسلامیّة فریستها تحت ضغط عوامل کثیرة، وهو إظهار لشعار هذه القومیّة، فتتجرد جمیع الشعوب الإسلامیّة عن جمیع ملابسها وأزیائها الإقلیمیّة التي تمیز بعضها عن بعض ویتعصب لها أقوام؛ وتظهر کلها في مظهر واحد یسمّی (الإحرام) في لغة الدین والفقه وفي مصطلح الحج والعمرة، حاسرة رؤوسها ما بین رئیس ومرؤوس، وصغیر وکبیر،وغنيّ وفقیر، وتهتف کلّها في لغة واحدة، ونغمة واحدة،«لبیک اللهمّ لبیک، لبیک لا شریک لک لبیک، إن الحمد والنعمة لک والملک، لا شریک لک» وهکذا تتجلّی القومیّة الإسلامیّة في اللباس والهتاف، وهما من أوضح ما تجلّت فیه قومیّة، وفي وحدة المناسک والغایات التي یقوم بها جمیع الأفراد والشعوب، ویسعی إلیها العرب والعجم، ویلتقي علیها القاضي والداني، فکلّهم یطوفون حول بیت واحد، ویسعون بین غایتین مشترکتین(الصفا والمروة)، وکلّهم یقصدون (منی)،وکلّهم یؤمّون (عرفات) ویقفون في موقف واحد، وکلّهم یبیتون في مبیت واحد،(فإذا أفضتم من عرفات فاذکروا الله عند المشعر الحرام، واذکروه کما هداکم وإن کنتم من قبله لمن الضالین) ویفیضون إفاضة واحدة، (ثم أفیضوا من حیث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحیم) (13)، وکلهم یقفون أیاماً في «منی» تجمع بینهم أشغال واحدة من نحر وحلق ورمي.(14)
والحج ومناسکه وما یحیط به من ذکریات، وحوادث، وما یتلبّس به الحاج من التجرّد عن المظاهر، وما یأتي به من عمل ونسک ـ من إحرام، ووقوف، وإفاضة، ورجم، وسعي، وطواف ـ تخلید لما اختص به إبراهیم علیه السلام من التوحید ونفي الأسباب، والتوکّل علی الله والتفاني في سبیله، وإیثار لطاعته ومرضاته، وتمرد علی العادات والأعراف، والمعاییر الزائفة والمثل المصطنعة، وتجدید لذلک الإیمان القوي، والحب العمیق، والتضحیة الفائقة، والإیثار الرفیع، والحج ضامن لبقاء هذه المعاني السامیة، وهذه القیم الربانیّة کلها، وبقاء الجامعة الإسلامیّة الإنسانیّة التي هي فوق القومیّات والعنصریّات والوطنیات المحدودة المصطنعة، ودعوة الناس إلی أن یسیروا علی نهج إبراهیم، ویتشبّعوا بروحه، ویقوموا بدعوته في کلّ عصر وفي کلّ زمان،(15) «ملّة أبیکم إبراهیم هو سمّاکم المسلمین من قبل وفي هذا لیکون الرسول شهیداً علیکم وتکونوا شهداء علی الناس، فأقیموا الصلاة وآتوا الزکاة واعتصموا بالله هو مولاکم فنعم المولی ونعم النصیر» (16)
والحج تدریب عمليّ للمسلم علی المبادي الإنسانیّة العلیا الّتي جاء بها الإسلام، فقد أراد الإسلام ألا تکون مبادئه وقیمه الإجتماعیّة مجرد شعارات أو نداءات، بل ربطها بعباداته، وشعائره ربطاً وثیقاً، حتّی تخطّ مجراها في حیاته سلوکاً وتطبیقاً.
وقد رأینا في صلاة الجماعة کیف تنمي معاني الأخوة والمساوات والحرِّیة. وهنا في الحج نری معنی المساواة في أجلی صورة وأتمّها. فالجمیع قد اطرحوا الملابس والأزیاء المزخرفة التي تختلف باختلاف الأقطار، واختلاف الطبقات، واختلاف القدرات، واختلاف الأذواق، ولبسوا جمیعاً ذلک اللباس البسیط ـ الذي هو أشبه ما یکون بأکفان الموتی ـ یلبسه الملک والأمیر، کما یلبسه المسکین والفقیر، وإنّهم لیطوفون بالبیت جمیعاً فلا تفرق بین من یملک القناطیر المقنطرة، ومن لا یملک قوت یومه، ویقفون في عرفات ألوفاً ألوقاً، فلا تحسّ بفقر فقیر، ولا غِنی غَنيٍّ، ولا تحس حین تراهم ثیابهم البیض وفي موقفهم المزدحم العظیم إلا أنّهم أشبه بالناس في ساحة العرض الأکبر، یوم یخرجون من الأجداث إلی ربّهم ینسلون.
وفي الحج نری معنی الوحدة جلیّاً کالشمس؛ وحدة في المشاعر، ووحدة في الشعائر، ووحدة في الهدف، ووحدة في العمل، ووحدة في القول. لا إقلیمیّة ولا عنصریّة، ولا عصبیّة للون أو جنس أو طبقة، إنّما هم جمیعاً مسلمون، بربّ واحد یؤمنون، وببیت واحد یطوفون، ولکتاب واحد یقرأون، ولرسول واحد یتبعون، ولأعمال واحدة یؤدّون، فأي وحدة أعمق من هذه وأبعد غوراً؟(17)
ویقول الشیخ محمّد قطب رحمه الله: «والحج موسم في العمر یتجرّد فیه الإنسان من متاع الأرض الزائل کلّه».(18)
التزام تقوی الله بعد الحج
یرید الله سبحانه وتعالی أن نعرف أنّه ما دمنا قد أتممنا الحج ـ والحج ما دام من حلال وقصد به وجه الله فهو مقبول ومبرور ـ فإنّ الشیطان لن یترکنا بمجرّد غفران الذنب، إنّه یحاول أن یدفعنا في ذنوب ومعاص جدیدة. وبمجرّد عودتنا من الحجّ هو سیعمل علی أن یفسد علینا الطاعة ویضع في نفوسنا المعصیة، والله یرید أن نلتفت إلی أنّنا في الحج انتصرنا علی الشیطان، بأن امتنعنا عن کلّ ما نهی الله عنه، لیس امتناعاً یشمل ما حرّم الله في الأوقات العادیة، ولکن التحریم امتدّ إلی بعض ما کان مباحاً، فکأنّ التحریم زاد ورغم ذلک قدرنا علیه، قضینا مناسک الحج في ذکر الله والانشغال بالعبادة والدعاء.
بمعنی أنّنا لسنا قادرین علی طاعة المنهج، بل إنّنا قادرون علی طاعات أکبر وأکثر، فإذا تذکرنا هذه الحکمة التزمنا تقوی الله بعد أداء مناسک الحجّ، وعرفنا أّننا قادرون علی الطاعة فالتزمناها. ولذلک یقول الحق سبحانه وتعالی: «فإذا قضیتم مناسککم فاذکروا الله کذکرکم آباءکم أو أشدّ ذکراً، فمن الناس من یقول ربّنا آتنا في الدنیا حسنة وما له في الآخرة من خلاق» (19) إنّ الله سبحانه وتعالی یریدنا لکي لا نضلّ ولا ننحرف، أن نذکره دائماً بعد أداء فریضة الحج کما نذکر آباءنا علی التباعد.(20)
وإنّ التقوی لا تکون مع غلبة الشهوات، إنّما تکون مع الانضباط الّذي یلزم النفس بالحدود الّتي حدّدها الله وقال عنها: «تلک حدود الله فلا تقربوها» (21) أو «تلک حدود الله فلا تعتدوها» (22)
والانضباط یحتاج إلی تدریب لکي یصبح عادة، حتّی تستسلم شهوات النفس والجسد لإرادة الإنسان، ویصبح قیادها في یدیه، یطلقها ـ بقدر ـ حین یشاء، ویحبسها ـ بقدر ـ حین یشاء. (23)
وبعض الناس یحاولون أن یجعل من مناسک الحجّ مراسم ثقیلة المونة، صعبة الأداء، وهذا خطأ، فالحجّ رحلة روحیّة ممتعة، وسیاحة عاطفیّة کریمة، وقد شرعه الله لیکون شحنة قلبیّة إلی جانب الأساس العقلي للإسلام، شحنة تحیطه بإطار من الذکریات والعواطف.(24)
آداب السفر للحاج والمعتمر
یستحبّ لمن أراد السفر للحجّ والعمرة مراعاة الآداب التالیة، الّتي أخذ أکثرها من هدي رسول الله صلّی الله علیه وسلّم وسنّته الفعلیّة أو القولیّة، وذلک لیکون الحاج أو المعتمر متّبعاً ومتأسّیاً برسول الله صلّی الله علیه وسلّم منذ الخطوات الأولی الّتي یتهیّأ فیها للشروع بهذه المرحلة المبارکة إلی الله تعالی:
1ـ إذا عزم علی الحجّ بدأ بالتوبة من جمیع المعاصي والمکروهات، ویخرج من مظالم الخلق ویقضي دیونه، ویردّ الودائع، ویکتب وصیّته ویشهد علیها ویترک لأهله ومن تلزمه نفقته إلی حین رجوعه.
2ـ أن یحرص علی أن تکون نفقته حلالاً خالصةً من الشبهة والدنس، وقد أحسن من قال:
إذا حججت بمال أصله دنس/ فما حججت ولکن حجّت العیر(25)
3ـ أن یستکثر من الزاد والنفقة لیواسي منه المحتاجین.
4ـ أن لا یشارک غیره في الزاد والنفقة، لأنّه یمتنع بسبب المشارکة من التصرّف في وجوه الخیر والبرّ والصدقة.
5ـ الرکوب في الحج أفضل من المشي، وقد ثبت أنّ رسول الله صلّی الله علیه وسلّم حجّ راکباً.
6ـ أن یتعلّم کیفیّة الحجّ، وهذا فرض عین، إذ لا تصح عبادة ممن لا یعرفها.
7ـ أن یطلب له رفیقاً موافقاً، راغباً في الخیر کارهاً للشرّ، إن نسي ذکّره، وإن ذکر أعانه، وإن تیسر له الحج مع عالم عامل فلیحرص علی ذلک؛ فإنّ العالم یعینه علی مبارّ الحجّ ومکارم الأخلاق.
8ـ أن تکون یده فارغة من مال التجارة ذاهباً وراجعاً، لأنّ ذلک یشغل القلب.
9ـ أن یقول عند الخروج من بیته، ما صحّ أنّ رسول الله صلّی الله علیه وسلم کان یقوله إذا خرج من بیته: «بسم الله توکّلت علی الله، لا حول ولا قوّة إلا بالله، اللهم إنّي أعوذ بک أن أضلّ أو أُضلّ، أو أزلّ أو أُزلّ، أو أظلم أو أُظلم، أو أجهل أو أُجهل علي» (26)
10ـ أن یجتنب الشبع المفرط والترفّه والتبسّط في ألوان الأطعمة، فإنّ الحاج أشعث أغبر.
11ـ أن لا یسافر وحیداً، لأنّ رسول الله صلّی الله علیه وسلّم کره الوحدة في السفر وقال: «الراکب شیطان، الراکبان شیطانان، والثلاثة رکب» (27)
12ـ أن یکثر من الدعاء في جمیع سفره لنفسه ولوالدیه وأحبّاءه.
13ـ أن یداوم علی الطهارة، وأن یحافظ علی الصلاة في أوّل وقتها.(28)
ـــــــــــــــــــــ
1ـ سورة الحج:27
2ـ لسان العرب3/59
3ـ آل عمران:97
4ـ البقرة:126
5ـ صحیح البخاري، کتاب الإیمان، باب دعاءکم إیمانکم؛ رقم الحدیث:8
6ـ مسند الإمام أحمد، ر قم الحدیث21757
7ـ رواه الدارمي2/27، رقم 1785
8ـ بدائع الصنائع ج3، ص39،41
9ـ الأرکان الأربعة 246
10ـ إحیاء علوم الدین1/359
11ـ حجّة الله البالغة1/223
12ـ إحیاء علوم الدین 1/363
13ـ البقرة:199
14ـ الأرکان الأربعة272
15ـ مقالات إسلامیّة في الفکر والدعوة2/472
16ـ الحج:78
17ـ العبادة في الإسلام للدکتور یوسف القرضاوي289ـ291
18ـ مفاهیم ینبغي أن تصحّح للسید محمد قطب 207
19ـ البقرة:200
20ـ فقه العبادات لفضیلة الشیخ محمد متولّي الشعراوي301
21ـ البقرة:187
22ـ البقرة:229
23ـ عبادات الإسلامیّة فقهها وأسرارها381ـ 386
24ـ هذا دیننا للشیخ محمد الغزالي127
25ـ فقه العبادات229
26ـ مسند الإمام أحمد 7/434
27ـ مختصر سنن الترمذي رقم الحدیث:1674؛ باب ما جاء في کراهیة أن یسافر الرجل وحده.
28ـ عبادات الإسلامیّة فقهها وأسرارها 381ـ 386

الکاتب: دين محمد محمدآلق