الحمد لله نحمده ونستعینه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سیئات أعمالنا، من یهده الله فلا مضل له، ومن لم یجعل الله له نورا فما له من نور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شریك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أدی الأمانة، وبلّغ الرسالة، ونصح للأمة، وجاهد في الله حق […]

 

الحمد لله نحمده ونستعینه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سیئات أعمالنا، من یهده الله فلا مضل له، ومن لم یجعل الله له نورا فما له من نور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شریك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أدی الأمانة، وبلّغ الرسالة، ونصح للأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلوات الله وسلامه علیه، ورضوان الله علی آله وأصحابه الذین آمنوا به وعزّروه ونصروه، ورضوان الله عن الداعین بدعوته، السالکین سبیله، المجاهدین جهاده إلی یوم الدین.

    أما بعد:

    قال الله تعالی: “مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً”. الأحزاب٢٣

    وقال النبي -صلی الله علیه وسلم-: “إن الله یبعث إلی هذه الأمة علی رأس کل مائة سنة مَن یجدّد لها دینها”. المستدرك علی الصحیحین، ح:٨٦٧١، وسکت عنه الذهبي.

    إن من فضل الله تعالی علی الأمة الإسلامیة أن تکفّل لها بحفظ قرآنها ودینها، فقال جلّ ثناءه: “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ”. حجر٩.

وذلك بأن هیّأ في کل عصر من العصور أناسا قد حبسوا أنفسهم وأحیوا لیلهم وأظمؤوا نهارهم وبذلوا جهدهم لدراسة هذا الدین، ولکشف شبه الشاکّین، وقد قال النبي -صلی الله علیه وسلم-: “إن الله یبعث إلی هذه الأمة علی رأس کل مائة سنة من یجدّد لها دینها”.

إن الرجولة أصل عظیم من أصول التربیة علی هذا الدین والإیمان به والدعوة إلیه. والرجل هو إکسیر الحیاة ومحور الإصلاح وروح الدعوات. فرجل واحد قد یساوي مائة، ورجل قد یوازي ألفا، ورجل قد یزن شعبا، وقد قیل: “رجل ذو همة یحیي أمة”.

وإن الرجولة لیست بالسن المتقدمة، فکم من شیخ في سن السبعین وقلبه في سن السابعة؛ یفرح بالتافه، ویبکي علی الحقیر، فهو طفلٌ صغیرٌ ولکنه ذو لحیة وشارب. وکم من غلام في مقتبل الصبا ولکنك تری الرجولة المبکرة في قوله وعمله وخلقه وتفکیره.

مرّ أمیر المؤمنین عمر -رضي الله عنه- في طریق، وثلّة مِن الصبیان یلعبون، فَهَروَلُوا هاربین إلا عبد الله بن الزبیر، فثبت في مکانه دون إخوانه، فقال له عمر: لماذا وقفت یا غلام ولم تَعدُ مع أصحابك؟ فقال: یا أمیر المؤمنین! لم أقترف ذنبا فأخاف منك، ولم تکن الطریق ضیّقة فأوسعها لك! فأعجب به عمرُ وأثنی علیه. أولئك لعمري هم الصغار الکبار! أما الیوم فما أکثر الکبار الصغار!!! وإن الرجولة لیست بضخامة الجسم، فالمرء بأصغرَیه؛ قلبه ولسانه، لا بضخامة جثمانه. وماذا تنتفع الأمم بأجسام البغال وأحلام العصافیر؟!

قد حدّثَنا القرآن الکریم عن جماعة من المنافقین فقال: “وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ”. المنافقون٤، ومع هذا یقول عنهم: “كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ”.المنافقون٤.

وفي الحدیث الشریف: “یأتي الرجل العظیم السمین یوم القیامة لا یزنُ عند الله جناح بعوضة”. صحیح البخاري، کتاب التفسیر، ح:٤٧٢٩.

وکان عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قصیر القامة، نحیف الجسد، فرأی بعض الصحابة یوما ساقَیه وهما دقیقتان هزیلتان، فضَحِکوا مِنها. فقال النبي -صلی الله علیه وسلم-: مِمَّ تضحکون؟ قالوا: مِن دقة ساقَیه. فقال -صلی الله علیه وسلم-: والذي نفسي بیده لَهما أثقلُ في المیزان مِن أحد”. المستدرك، کتاب معرفة الصحابة، ح:٥٤٣٢.

نعم!

لیست الرجولة بالسن، ولیست الرجولة بالجسم، ولا بالمال والمنصب، ولا یُقاس الرجل بواحد من هذه المقاییس العرجاء! وإنما الرجولة الحقة قوةٌ نفسیةٌ تحمل صاحبها علی معالي الأمور وترفعه عن سفاسفها، قوة تجعله کبیرا في صغره، قویا في ضعفه، غنیا في فقره.

روی التاریخ أنّ خالد بن الولید -رضي الله عنه- حاصر الحیرة، فطلب من أبي بکر -رضي الله عنه-  مددا، فما أمدّه إلا برجل واحد وهو القعقاع بن عمرو التمیمي -رضي الله عنه- وقال: “لا یهزم جیش فیه مثله”. الکامل في التاریخ، ٢/٣٥٧. وکان یقول: “لصوت القعقاع في الجیش خیر من ألف مقاتل” الإصابة في تمییز الصحابة، حرف القاف، ٧١٤٢.

ولما طلب عمرو بن العاص -رضي اللّٰه عنه- الله عنه المددَ من أمیر المؤمنین عمر بن الخطاب رضي الله عنه في فتح مصر، کتب إلیه: ” أما بعد، فإني أمددتُک بأربعة آلاف رجل، علی کل ألف رجل منهم مقام الألف؛ الزبیر بن العوام، والمقداد بن عمرو، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد”.

 وأما أین تنشأ الرجولة؟!

في ظلال عبادة الله وبین جدران المساجد والمدارس الخاشعة یتربّی الرجال المؤمنون الصادقون. وقد وصف الله روّاد المساجد فقال: “فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (٣٥) رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَار”.

النور٣٥-٣٦، وقال أیضا: “لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ، فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ”. التوبة:١٠٨. وقال المفکر الداعیة الحکیم السید أبو الحسن الندوي -رحمه الله-: “المسجد قطب یدور حوله رحی الحیاة الإسلامیة”.

وهذا أمیر المؤمنین عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- جلس مع جماعة من أصحابه في إحدی دور المدینة فقال لهم تمَنَّوا… فقال بعضهم أتمنّی أن تمتلئ هذه الدار ذهبا أنفقه في سبیل الله، وقال آخر: أتمنّی سیوفا ورماحا أمِدُّ بها المجاهدین، وقال عمر الخبیرُ بما تحتاجه الدعوات والنهضات: أما أنا فإنّي أتمنی أن تمتلئ هذه الدار رجالا مثل أبي عبیدة بن الجراح، وسالم مولی أبي حذیفة، ومعاذ بن جبل فأستعملهم في طاعة الله.

 أیها القارئ الکریم!

یتمنّی عمر هذه الأمنیة في أي وقت؟! في وقت امتلأت فیه الساحة الإسلامیة برجال عزّ نظیرهم وقلّ مثیلهم وجلّ شبیههم، فما أعظم حاجتنا الیوم إلی مثل هذه الأمنیة وقد افتقرت البلاد وأجدبت، وعجزت النساء أن یلدن أمثال أولئك الرجال!

کم هي حاجة الأمة ماسة إلی أمین کأبي عبیدة بعد أن انتشرت الخیانة في أرجاء العالم، وکم هي حاجة الأمة ماسة إلی رجل مثل الخالد یرفع لواء الجهاد. ولله در الشاعر حیث قال:

يا رجال الحق قد جل الأسى…أرجال منْ أرى أمْ لا أَرَى؟

ضاعت الأمةُ فِي غفلاتِكم…وتَحَيَّزْنا لأمرٍ حيَّرا

الجوى ينخر في أحشائِكم…والهوَى بَينَ خوافِيكُم سَرَى

اسألوا عن كلِّ نصرٍ خالدا…واسألوا عن كلِّ عدلٍ عمرا

يا رجالَ الحق قدْ طالَ الجوَى…بلغَ السيلُ الذُّبى وانحدرا

أنتم القدوة والناسُ بكم…تقَتدي فَخرًا وتَزْهُو مَفخَرَا

وحِّدُوا أشتاتكم واتحدوا…واربطُوا أحلامَكم ربطَ العُرَى

واصبروا إن عَظُمَ الخطبُ فما…يدرك النصرَ سِوى مَنْ صبرا

وانصروا الله يَهبْكُم نَصرَهُ…واشكروه يُعطِ من قد شَكَرَا

وبالجملة أن الأدیان لا تعیش ولا تزدهر ولا تعود إلی نشاطها وشبابها بعد اضمحلالها وضعفها إلا عن طریق الرجال النوابغ الذین یظهرون حینا بعد حین، ویملکون إیمانا قویا راسخا ینفخون في أمتهم روحا جدیدة، ویخلقون في أتباع دینهم إیمانا جدیدا وثقة جدیدة.

سليم رحماني