قال – سبحانه وتعالى -: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15].يا إخوة الإسلام:إنَّ دين الإسلام عقيدةٌ وعمل، شريعة وأخلاق، ينظِّم علاقة الإنسان بربِّه، وعلاقتَه بنفسه، وعلاقته ببني جنسه.ولقد خلق الله الإنسانَ مزدوجَ الخِلْقة من عنصرين: عنصر المادة، وعنصر الرُّوح؛ قال – سبحانه – […]

قال – سبحانه وتعالى -: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15].
يا إخوة الإسلام:
إنَّ دين الإسلام عقيدةٌ وعمل، شريعة وأخلاق، ينظِّم علاقة الإنسان بربِّه، وعلاقتَه بنفسه، وعلاقته ببني جنسه.
ولقد خلق الله الإنسانَ مزدوجَ الخِلْقة من عنصرين: عنصر المادة، وعنصر الرُّوح؛ قال – سبحانه – في شأن خَلق آدم: ﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ﴾ [الحجر: 29]؛ أي: بعد أن سوَّى ونسَّق ونظَّم عنصرَه المادي، نفخ فيه العنصر الرُّوحي من عنده، ثم أمرَه بالمحافظة على هذين العنصرين، ونظَّم له وسائل الإصلاح والارتقاء، فشرَع له الزواج؛ فبزواجه وإنجابه يحافظُ على نوعه وعلى بني جنسه، ويسَّر له سبيل العلم والكسبِ، وباكتسابه للرِّزق وبإنفاقه له على نفسه وأهله يحافِظ على العنصر الماديِّ، وفي أثناء طلبه للرِّزق عليه أن يراقبَ الله فيكتسبَ قُوتَه من الطُّرق التي شرَعها الله، ويتنحَّى عن الطُّرق التي تُغضب الله، وبذلك يحافظ على نقاوة العنصر الرُّوحي؛ قال -تعالى-: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 21].
والعمل والإنتاج هما وسيلةُ العمل المشروع، وقد أمر الله بهما، وحضَّ عليهما، ورفع من شأنهما، وامتنَّ على عباده بأنْ ذلَّل لهم الأرضَ ويسَّر لهم العملَ فيها؛ فقال – سبحانه -: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15].
وسخَّر لهم البحر؛ ليأكلوا منه لحمًا طريًّا، ويستخرجوا منه حلية يلبسَونها، وأجْرَى لهم الفلك، وجعل لهم الليلَ سكنًا، والنهار معاشًا؛ قال – سبحانه وتعالى -: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [القصص: 71 – 73].
ومنح الإنسانَ العقل، وكرَّمه، وفضَّله على سائر المخلوقات: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 70].

وأمر الإنسان بعد أن مَنَحَه العقل أن يجمع رزقَه باستعمال عقلِه، وبما وسِعه من حيلة، وإعمالِ فكرٍ، وتدبير رأي، وجعلَ السعيَ والعمل فريضةً مفروضة بعد الصلاة؛ فقال – سبحانه وتعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الجمعة: 9، 10].
فحثَّهم على العمل مع ذِكر الله واستحضار عظمتِه ومراقبته، وأنَّه مطَّلع عليهم يعلم ما يسرُّون وما يعلنون، فإذا ما قصدوا وجهَ الله، وابتعدوا عن غضبِه، رزقَهم كما يرزقُ الطير؛ تغدو خماصًا وتروح بطانًا، ووهبَهم القناعة والرِّضا.
ومهَّد الخالق للإنسان طرُقَ الكسب، وقد ذكر القرآن الكريم منها أنواعًا متعدِّدة، أوَّلُها طريق التجارة، وقد مَنَّ الله على قُريش فيسَّر لها رحلتين: إحداهما إلى الشَّام، والأخرى إلى اليمن؛ لكي يأتلفوا ويتعاونوا ويجدوا الأمانَ من الفقر، والإطعامَ من الجوع؛ فقال – سبحانه -: ﴿ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾ [قريش: 1 – 4].
وجعلَ التِّجارة ابتغاءً من فضل الله: ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ﴾ [الجمعة: 10]، وهم بذلك يساهمون في نوعٍ من التعاون الاجتماعي الذي لا بدَّ منه في حياتهم، والذي أمر به اللهُ على وجهٍ عامٍّ: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 2].
وأعلى منزلةَ التُّجار الصادقين في تعامُلهم وعهودهم، والأمناء على أموال العباد؛ فقال – عليه الصلاة والسلام -: ((التَّاجر الصَّدوقُ يُحشر يوم القيامة مع الصديقين والشهداء))[1].
وأخرج التُّجار المتهالكين على المادَّة، المتكالبين على الدنيا، المتكبِّرين على شرع الله، المنحرفين عن الصِّراط السويِّ – أخرجَهم عن دائرة الإسلام؛ فقال – عليه الصلاة والسلام -: ((مَنْ غشَّنا فليس منَّا))[2].
الطريق الثاني لتحصيل الرِّزق – والذي مهَّده الله للإنسان -: طريقُ الزراعة، ولقد لفت الله أنظارَ الإنسان إلى إعداد الأرض للزِّراعة؛ فقال – سبحانه -: ﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴾ [عبس: 24 – 32]، وجعل الرَّسولُ الزَّارع متاجرًا مع الله؛ فعليه أنْ يحرُثَ الأرض، وعلى الله أن يُخرج النبات، وأن يُخرج الثَّمَرة؛ قال -تعالى-: ﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ﴾ [الواقعة: 63، 64]، وضاعَف له الأجر والثوابَ؛ قال – عليه الصلاة والسلام -: ((ما مِنْ مسلمٍ يغرِس غرسًا، أو يزرعُ زرعًا، فيأكلُ منه إنسانٌ أو حيوان أو دابَّة، إلا كان له صدقةٌ))[3].
الطريق الثالث: طريق الصناعة، والصِّناعة أقوى العُمُد التي تقوم عليها الحضارات، وفي القرآن إشارةٌ إلى جملةٍ من الصناعات؛ فيه إشارةٌ إلى صناعة الحديد: ﴿ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ﴾ [الحديد: 25]، وفيه إشارة إلى صناعة الملابس فيما حكاه القرآنُ عن سيدنا داود: ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ ﴾ [الأنبياء: 80]، وقال: ﴿ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا ﴾ [الأعراف: 26].
و أنبياءُ الله لم تَمنعْهم النَّبوة عن العمل واكتساب الرزق؛ فنوحٌ – عليه السلام – كان نجارًا، وداودُ كان صانعًا للدروع، وبتقواه لله ألان اللهُ له الحديدَ، وقد روِيَ عنه أنه كان يخرج من قريتِه متنكِّرًا يسأل الرُّكبان عنه وعن سيرته، فلا يسأل أحدًا إلا أثنى عليه خيرًا في عبادته وسِيرته، حتى بعث الله له ملكًا في صورة رجُل فلقِيه داودُ وسأله كما يسألُ غيرَه، فقال: هو خيرٌ لنفسه ولأمَّتِه، إلا أن فيه خصلةً لو لم تكنْ فيه، لكان كاملاً، فقال: ما هي؟ قال: يأكلُ ويُطعم عيالَه من مال المسلمين؛ فاجتهد داودُ في العبادة، ودعا ربَّه أن يعلِّمه عملاً يستغني به، ويُغني به عيالَه، فألان اللهُ له الحديدَ، فكان لا يحتاج إلى نارٍ يُدخل فيها الحديدَ، ولا إلى مِطرقة يضربُه بها، بل كان يفتِله مثلَ الخيوط، ويصنع منه الدُّروعَ مع أنه كان نبيًّا، وكان حسنَ الصوت، فقد كان إذا سبَّح تسبِّح معه الجبال الراسيات، وتقفُ الطيور السارحات، وتُجاوبه بأنواع اللغات: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ﴾ [سبأ: 10]، وكان آدمُ حرَّاثًا، ولقمان كان خيَّاطًا، وطالوت دبَّاغًا وقيل: سقَّاءً.
و رفع رسولنا محمَّدٌ من منزلة العمل، وجعَله بمنزلة الجهاد في سبيل الله؛ فقد روِيَ: أنَّ الصحابة كانوا جالسين يومًا ومرَّ عليهم رجلٌ مفتولُ العضلات، ذو جَلَد، فقالَ رجل للنبي وهو يشير إلى الرجُل: لو كان هذا في سبيل الله؟ أي: لو استغلَّ هذا الرجُل قوَّته في الجهاد في سبيل الله؛ فقال – عليه الصلاة والسلام -: ((لو كان خرج يسعى على نفسِه يكفها المسألة، ويعفُّها عن الناس، فهو في سبيل الله، وإنْ كان خرج يسعى على أبوين ضعيفينِ، فهو في سبيل الله، وإنْ كان خرج يسعى على ولدِه صغارًا، فهو في سبيلِ الله، وإنْ كان خرج يسعى تفاخرًا وتكاثرًا، فهو في سبيل الشَّيطان))[4].
و قد رَفَعَ الرسول من شأن العمل وجَعَلَه بمنزلة الجهاد، فقد سعى إلى تيسيره وتسهيله للناس؛ قال أنس بن مالك: جاء رجلٌ من الأنصار إلى رسولِنا محمَّد يسأله، فقال له -صلى الله عليه وسلم-: ((أمَا في بيتِك شيء؟))، قال: بلى، حِلْسٌ نلبَس بعضَه ونبسُط بعضه، وقعب نشرب فيه الماءَ؛ فقال: ((ائتني بهما))، فأتاه بهما فأخذهما الرَّسول بيده وقال: ((مَنْ يشتري هذين؟))، فقال رجل: أنا آخذهما بدرهم، فقال الرَّسول: ((من يَزيد؟)) – قالَها مرتين أو ثلاثة – فقال رجل: أنا آخذُهما بدرهمين، فأعطاهما إياه، وأخذ الدِّرهمين فأعطاهما للأنصاري، وقال له: ((اشترِ بأحدِهما طعامًا، فانبِذْه إلى أهلك، واشترِ بالآخرة قدُّومًا فأتني به))، فأتاه به، فشدَّ فيه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بيده عودًا، ثمَّ قال: ((اذهب واحتطب وبِعْ، ولا أرينَّك خمسةَ عشَر يومًا))، ففعل الرجُل، ثمَّ جاء وقد أصاب عشرة دراهمَ، فاشترى ببعضها ثوبًا، وببعضها طعامًا؛ فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((هذا خيرٌ من أن تجيءَ المسألة نكتةً سوداءَ في وجهك يوم القيامة، إنَّ المسألة لا تصلح إلا لذي فقرٍ مُدقعٍ، أو لذي غُرمٍ مفظعٍ، أو لذي دمٍ موجع)) [5].

لقد وفَّر الرسول لهذا الرجل الأنصاري رأسَ المال، ووجَّهه إلى العمل، وأمرَه أن يعتمد على نفسه في كسْب قُوتِه، ولا يسأل أحدًا من الناس؛ فاليدُ العليا خير من السفلى، والشرف والمروءة من صفات الإنسان المسلم، ودينُنا دينُ العزَّة والكرامة وصيانة الوجه من ذلِّ السؤال في الدنيا، ومن الفضيحة بالنُّقطة السواد يوم القيامة.
وروِيَ أن الرسول رأى عاملاً وقد ظهر على يديه آثارُ العمل، فقال له: ((ما هذا؟))، قال الرجُل: أمشي في الأرض، وأنفق على عيالي؛ فقال الرَّسول -صلى الله عليه وسلم-: ((هذه يدٌ لا تمسُّها النار))[6].
وروِيَ – أيضًا – أنَّ الرسول قال: ((إنَّ الله يحب المؤمن المحترف الضَّعيف المتعفِّف، ويُبغض السائل الملحف))[7]، وقال: ((من أمسى كالاًّ من عمل يدِه، أمسى مغفورًا له))[8].
كما أمر الإسلام باكتساب المال، فقد نهى عن تحصيله بالطُّرق غير المشروعة؛ فقال – سبحانه وتعالى -: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 188].
ونهى عن اكتساب المال عن طريق الرِّبا، واعتبر الرِّبا أخبثَ أنواع الكسب الحرام، وصوَّر المرابي بتلك الصورة الكريهة التي سيكون عليها يوم القيامة: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ﴾ [البقرة: 275] قال ابن عطيَّة في تفسيره: شبَّه اللهُ المرابِيَ في الدنيا بالمتخبِّط المصروع، فالذين فتَنهم المال، واستعبدهم، وتركوا لأجل الكسْبِ به جميعَ موارد الكسب الطبيعي – تخرج نفوسُهم عن الاعتدال الذي عليه عامَّة الناس، ويظهر ذلك في حركاتِهم، وترى ذلك في حركات المولَعين بأعمال البُورصة، والمغرَمين بالقِمار، يَزيد فيهم الانهماك في أعمالِهم حتى تكون خفَّة تعقبها حركةٌ كأنه مصروع.
وقيل: يخرج المرابي من قبرِه يوم البعث كأنه مصروعٌ، وكلَّما وقف صُرع على وجهه، ويكونُ بهذه الصورة المنفِّرة التي تفضح أمرَه يوم القيامة على مرأى الناس.
وكذلك نهى عن اكتساب المال عن طريق الرِّشوة، وقد روِيَ أن الرَّسول – عليه الصلاة والسلام – قال: ((لعن اللهُ الراشيَ والمرتشيَ))، واللعنة: لا تشمل الرَّاشي والمرتشي فحسبُ، وإنما تشمل كلَّ مَنْ يسعى فيها ويعمل على تيسيرِها، أو التسبب فيها، وقد روِيَ أن رجلاً أهدى لسيدنا عمر بن عبدالعزيز – وهو خليفة – هديَّة فردَّها، فقيل له: كان الرَّسول -صلى الله عليه وسلم- يقبل الهديَّة، قال: كان ذلك له هديَّةً، وهو لنا رِشوة.
وكذلك نهى عن أكلِ أموال اليتامى ظلمًا، وصوَّره بهذه الصورة الكريهة: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [النساء: 10].
وحرَّم اكتساب المال عن طريق القِمار؛ فقال – سبحانه -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ [المائدة: 90، 91].
فكما حرَّم الله الخمر وحرَّم التداول فيها، حرَّم الميسِرَ، وهو القِمار، وهو يؤدِّي إلى إفساد التربية بتعويد النفس الكسلَ، وانتظار الرِّزق من الأسباب الوهمية، وإضعاف القوة الفعلية بترك الأعمال المفيدة في طرق الكسب الطبيعية.
وحرَّم الاكتساب عن طريقة التَّطفيف في الكيل، أو الخسرانِ فيه، أو الغشِّ في السلعة؛ فقال – سبحانه -: ﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [المطففين: 1 – 5]، وقال – عليه الصلاة والسلام -: ((مَنْ غشَّنا، فليس منَّا)).
كما حرَّم الكسْب عن طريق المسألة والاستجداء، قال – عليه الصلاة والسلام -: ((اليدُ العليا خيرٌ من اليد السفلى)).
وكما نظَّم الله طريق الكسْب، أمرنا أن نأكلَ الحلال الطيَّب، حيث قال – سبحانه -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [البقرة: 172].
ونظَّم طرق الإنفاق والانتفاع بهذه الأموال المكتسبة، كما حضَّ على المحافظة عليها؛ فحرَّم التبذير والإسراف، كما حرَّم الشحَّ والتقطير؛ قال – تعالى -: ﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾ [الإسراء: 29] ومدَح عباده المؤمنين، وقال في وصفهم: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ [الفرقان: 67]، فهم ليسوا بمبذِّرين، فينفقوا فوق حاجتهم، ولا بخلاءَ على أهليهم فيقصِّروا في حقِّهم فلا يكفوهم، وقد روِيَ عن النبي أنه قال: ((مِنْ فقه الرجُل رفقُه في معيشتِه))، وقال أيضًا: ((ما عال مَنِ اقتصد)).
بقلم: محمد محمود مصطفى
منبع: الالوکه
[1] متفق عليه.
[2] البخاري.
[3] مسلم.
[4] رواه الطبراني.
[5] أخرجه ابن ماجه وأبو داود والبيهقي.
[6] رواه الطبراني.
[7] تفسير القرطبي.
[8] رواه الطبراني.