الحمد لله رب العالمین،ولي کل عون و تیسیر،والصلاة والسلام الأتمان الأکملان علی سیدنا محمد النبي البشیر النذیر،وعلی آله وصحبه ومن سار علی صراطه المستقیم المنیر إلی یوم الدین.إن فن التاریخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجیال وتشد إلیه الرحال ومعرفتها مندوبة ولازمة لاسیما التاریخ الإسلامي فإن معرفتها لکل دارس یرید أن یقتدي بالماضین والسلف الصالح […]

الحمد لله رب العالمین،ولي کل عون و تیسیر،والصلاة والسلام الأتمان الأکملان علی سیدنا محمد النبي البشیر النذیر،وعلی آله وصحبه ومن سار علی صراطه المستقیم المنیر إلی یوم الدین.
إن فن التاریخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجیال وتشد إلیه الرحال ومعرفتها مندوبة ولازمة لاسیما التاریخ الإسلامي فإن معرفتها لکل دارس یرید أن یقتدي بالماضین والسلف الصالح من الأمة الإسلامیّة لازم.
قال الإمام ابن خلدون رحمه الله في مقدمة کتابه القیّمة المهمّة: « اعلم أن فن التاریخ فنّ عزیز المذهب، جمّ الفوائد، شریف الغایة، إذ هو یوقفنا علی أحوال الماضین من الأمم في أخلاقهم،والأنبیاء في مسیرهم،والملوک في دولهم وسیاستهم حتی تتم فائدة الاقتداء في ذلک لمن یرومه في أحوال الدین والدنیا».(1)
التاریخ الإسلامي هو تاریخ أمّة شاهدة أمة صالحة هو تاریخ أمة آمرة بالمعروف ناهیة عن المنکر، هو تاریخ رجال ما عرف التاریخ أمثالهم.
إن تاریخ الأمة الإسلامیة زاخر بالجهابذة و الأفذاذ الذین یتلألؤ فیهم النبوغ الخارق والعبقریة الفذة، وتتجلی فیهم کمالات وعرفانیة، لا یخلو قرن من القرون ولا بلاد من البلدان الإسلامیة إلا ونجد هناک أعلاما یتباهی بهم تاریخنا الزاهر ونجد أیضا بلدانا خلّد التاریخ أسمائها،وهذه البلدان الإسلامیة کثیرة لا تحصی، وإن نظرة علی مکتبتنا الإسلامیة العامرة تعطیک صورة واضحة لما نقول. ثم إن بعض هذه البلدان لها نصیب وافر في إحیاء التراث الإسلامي والعقیدة الإسلامیة ورقيّ العلوم الإسلامیة حیث خلد التاریخ أسمائها ولایذکرها إلا بالخیر والصلاح و إن نصفح أوراق التاریخ نجد ازدهاره في العلوم الإسلامیة نحو القرآن و الحدیث و… .
وفي طلیعة هذه الطائفة من البلدان الإسلامیة مطلع سراج الدنیا ومصباح الخلق بلاد خراسان الکبری. نعم، هي أرض النوابغ والشعراء، مولد الأفاضل والعلماء، مولد الجم الغفیر من نوابغ الإسلام وعباقرته وأئمّة الحدیث والفقه والنحو والآداب العربیة والتصوف.
خراسان،کلمة واحدة ولکن لها أطراف کثیرة وکبیرة من المعاني والعواطف تتجاذب الکلام فیها. لهذه البقعة فضائل کثیرة حیث قدّمت رجالاً عزّ نظیرهم وقلّ مثیلهم تتباهی علی سائر البلاد بوجود الأکابر من العلماء.
قال شریک بن عبدالله :« خراسان کنانة الله إذا غضب علی قوم رماهم بهم »(2) ، وأیضا قال: « ما خرجت من خراسان رایة في جاهلیة وإسلام فردّت حتی تبلغ منتهاها». (3)
خراسان لیست ببلاد نستطیع أن نحددها تحدیدا دراسیا وتحقیقیا لأن المؤرخین في الأدوار المختلفة التاریخیة قاموا بالتشریح لظروف وتحدید هذه النواحي ولکن معرفة الصحیح من السقیم من الأمور الصعبة فلأجل هذا أذکر في هذه المقالة الأخبار الواردة في الکتب التاریخیة ولا أدعي صحتها.
خراسان بلاد واسعة تشكل الشمال الشرقي في إيران وتمتد بين جرجان وطبرستان من جهة وبين ما وراء النهر من جهة أخرى . وكان يتبعها من الناحية السياسية بلاد ما وراء النهر وسجستان (أفغانستان الحالية).وفي أيام العرب كان هذا الإقليم ينقسم إلی أربعة أرباع نسب كل ربع إلى إحدى المدن الكبرى التي كانت في أوقات مختلفة عواصم الإقليم بصورة منفردة أومجتمعة وهذه المدن هي: نيسابور ، ومرو ، وهراة ، وبلخ. (4)
في البدایة کانت عاصمة خراسان هي مرو وبلخ، ولکن في العهد الطاهري نقل الأمراء الطاهريون دار الإمارة إلی ناحية الغرب فجعلوا مدينة نيسابور عاصمة الإقليم . (5)
قال یاقوت الحموي رحمه الله : « خراسان: بلاد واسعة أول حدودها مما يلي العراق أزاذوار قصبة جوين وبيهق وآخر حدودها مما يلي الهند طخارستان وغزنة وسجستان وكرمان وليس ذلك منها إنما هو أطراف حدودها وتشتمل على أمهات من البلاد منها، نيسابور وهراة ومرو وهي كانت قصبتها وبلخ وطالقان ونسا وأبيورد وسرخس وما يتخلل ذلك من المدن التي دون نهر جيحون ومن الناس من يدخل أعمال خوارزم فيها ويعد ما وراء النهر منها وليس الأمر كذلك ». (6)
ودخلت خراسان ضمن مملکة الإسلام في عهد الخلیفة الثالث ، عثمان بن عفان رضي الله عنه ،سنة 31ه حین فتحها عبد الله بن عامر بــــــــن کریز.(7) علی أن ابن قتیبة یری أن بلاد خراسان قد ابتدأ دخولها الإسلام في عهد الخلیفة الثاني ،عمر رضي الله عنه علی ید الأحنف بن قیس سنة 18 وإنما أعید فتحها في عهد عثمان رضي الله عنه ، بعد أن انتقضت.(8)
فإن أهل خراسان ثاروا في نهایة خلافة عثمان وخلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ، ولم تتوطد أقدام العرب فیها إلا في العصر الأموي ، وخاصة في ولایة زیاد بن أبیه الذي جمعت له البصرة والکوفة وآلت إلیه خراسان کذلک.(9)
وکانت خراسان ذات مرکز هامّ في الخلافة الإسلامیة ، فقد کان یضم إلی والیها ما یتصل بها من الإمارات التي تقل عنها أهمیة. وکانت تشتمل علی عدة مراکز ثقافیة مهمة لعبت دورا کبیرا في خدمة الإسلام والحضارة الإسلامیة. (10)
تسمیتها :
قد اختلف في تسميتها بذلك فقال دغفل النسابة:«خرج خراسان وهيطل ابنا عالم بن سام بن نوح عليهما السلام لما تبلبلت الألسن ببابل فنزل كل واحد منهم في البلد المنسوب إليه يريد أن هيطل نزل في البلد المعروف بالهياطلة وهو ما وراء نهر جيحون ونزل خراسان هذه البلاد التي ذكرناها دون النهر فسميت كل بقعة بالذي نزلها، وقيل: «خر» اسم للشمس بالفارسية الدرية، و«أسان» كأنه أصل الشيء ومكانه، وقيل : معناه «كُل سهلا» لأن معنى «خر» كُل و«أسان» سهل، والله أعلم».(11)
سکانها:
غالبیة سکان الإقلیم (وهي نحو ثلثي سکانها) هم من الفرس والبشتون والبلوش مع وجود للترک والترکمان والأکراد. (12)
وقبل دخول الإسلام کان الإقلیم مرکزا للدیانة المجوسیة وخصوصا في بلخ في أفغانستان ،وعند تجذر الإسلام في المنطقة اعتنق عامة الخراسانیین الإسلام حیث کانوا في الغالب من السنة الشافعیة ، وبعض الحنفیة . في حین توجد الشیعة في الإقلیم أیضا وقد ترکزوا في مدینة طوس وما جاورها (تعرف باسم مشهد حالیا). ثم بعد حکم الصفویین، اعتنق معظم سکان القسم الإیراني المذهب الشیعي. في حین أنه لا تزال هناک مجموعات سنیة کبیرة في الإقلیم خاصة في الشرق (علی حدود أفغانستان) وفي الشمال (علی حدود ترکمنستان) وفي الشمال الغربي ( علی حدود ترکیا والعراق ) وفي الجنوب والجنوب الشرقي ( علی حدود باکستان).(13)
خراسان الحالیة :
أما خراسان الحالیة تضم منطقة أصغر بکثیر من تلک التي کان یضمها الإقلیم المعروف باسم خراسان في العصور الإسلامیة. فشرح حدودها کما یلي : « من الشمال إلی ترکستان، ومن الشرق إلی أفغانستان، ومن الجنوب إلی کرمان، ومن الغرب إلی جرجان وشاهرود وصحراء لوت. واشتملت علی نواحي الشمال الشرقي لإیران کلها. وطولها نحو 447 کیلومترا، وعرضها نحو 480 کیلومترا، ومساحتها نحو 320 کیلومتر مربعا». (14)
وتنقسم إلی ثلاث محافظات خراسان الرضوي، وخراسان الجنوبي، وخراسان الشمالي:
1-خراسان الرضوي: هذه المحافظة مساحتها 118854 کیلومترمربعا، وهي خامسة محافظات دولة إیران وسعا، شاملة علی 20 إقلیما و69مدینة. یبلغ عدد سکانها خمسة ملایین ونصف نسمة، وهي ثانية محافظات الدولة سکانا. عاصمتها مدینة مشهد(15)، وهي من إحدی المدن الکبیرة في ایران ویزورها خلق کبیر من داخل البلاد وخارجها لما فیها من المشاهد والضرائح کمشهد «الإمام» علي الرضا الذي هو أکبر مشهد ومزار في إیران کلها، وکضریح شاعر إیران الخالد «فردوسي» ( م 411 هـ ) صاحب «شاهنامة» ومزار حجة الإسلام الإمام «الغزالي» اللذین من مدینة طوس القدیمة التي أنجبت رجالا عبقریین وهي الآن متصلة بمدینة مشهد وتعد من نفس المدینة ویسکنها عدد کبیر من أهل السنة في نفس المدینة والقری التابعة لها من طوائف مختلفة من بین فارس وترکمان وبلوش وکرد و… . ویبلغ عددهم 200000 نسمةً تقریبا، وفیها نحو 11 مسجدا، وفیها مدرسة علمیة دینیة مسماة بمدرسة النور، ویجتمعون یوم الجمعة لإقامة الصلاة في تسعة أحیاء . وأما أهل السنة في خراسان کلها فهم یقطنون في مدن کثیرة، منها : مدینة تایباد، تربت جام، خواف، سرخس، باخرز، وعدد لا یستهان في بیرجند وبجنورد ونهبندان، ودرکز.
2-خراسان الجنوبي: هذه المحافظة ثامنة محافظات الدولة وسعا، وعاصمتها بیرجند، وشاملة علی 7 أقالیم و20 مدینة. یبلغ عدد سکانها 636000 نسمة . (16)
3-خراسان الشمالي: عاصمتها بجنورد، وهي شاملة علی 6 أقالیم و15 مدینة. ویبلغ عدد سکانها 811000 نســـــــــمة. (17)
غدت خراسان مرکزا نشیطا للآداب العربیة والدراسات السنیة ،وظهر فیها عدد کبیر من الفقهاء والمحدثین من الشافعیین والحنفیین والأشاعرة ، وکان لزهاد خراسان ومتصوفیهم دور هام في تطور الصوفیة في الإسلام ، کما کان لخراسان والعالم الإیراني أثر حاسم في نهضة اللغة الفارسیة الحدیثة وآدابها ابتداء من القرن الثالث الهجري وما بعد. (18)
فأما العلم فهم فرسانه وساداته وأعيانه، ومن أين لغيرهم مثل محمد بن إسماعيل البخاري، ومثل مسلم بن الحجاج القشيري، وأبي عيسى الترمذي، وإسحاق بن راهويه، وأحمد بن حنبل، وأبي حامد الغزالي، والجويني إمام الحرمين، والحاكم أبي عبد الله النيسابوري، وغيرهم من أهل الحديث والفقه ومثل الأزهري، والجوهري، وعبد الله بن المبارك وكان يعد من أجواد الزهاد والأدباء، والفارابي صاحب ديوان الأدب، والهروي، وعبد القاهر الجرجاني، وأبي القاسم الزمخشري، هؤلاء من أهل الأدب والنظم والنثر الذين يفوت حصرهم ويعجز البليغ عن عدهم، وممن ينسب إلى خراسان، عطاء الخراساني وهو عطــــــــاء بن أبي مسلم. (19)
وكان محمد بن علي بن عبد الله بن العباس قال لدعاته حين أراد توجيههم إلى الأمصار:«… عليكم بأهل خراسان، فإن هناك العدد الكثير والجلد الظاهر و هناك صدور سليمة وقلوب فارغــــة لم تتقسمها الأهواء ولم تتوزعها النّحل ولم يقدم عليهم فساد وهم جند لهم أبدان وأجسام ومناكب وكواهل وهامات ولحی وشــــــوارب وأصوات هائلة ولغات فخمة تخرج من أجواف منكرة.(20)
نعم، في الحقیقة کانت خراسان مولد الجم الغفیر من نوابغ الإسلام وعباقرته الذین کانت سیرهم الطیّبة وعلومهم النافعة خیر قدوة لنا و لکل طالب یحذو حذوهم،ولکن في العهد الأخیر أصیب هذا القطر بقحط الرجال وأجدب وعجزت النساء أن یلدن مثل هؤلاء الرجال، فإني أوجه سؤالا للمسلمین بل للشعب الخراسانیین خاصة، کما طرحه علی الشعب الإیراني الداعیةُ المفکر العلامة السید أبو الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله قبل أن یغادر إیران،فأدعه وما یقول : « لماذا أصیب هذا القطر الولود للعباقرة والأفذاذ في کل فنّ،حتی یصبح الإنسان یعتقد وهو یقرأ کتب السیر والتاریخ أنه لم یکن یولد في إیران إلا عملاق، لما أصیب هذا القطر الخصیب بضعف الإنتاج في العهد الأخیر فیمر بنا قرن بعد قرن، ولا نسمع بعالم ، أو أدیب أو شاعر أو مؤلف أو «فارس» أو قائد یسترعي انتباه العالم،ونلاحظ هذه الظاهرة بعد القرن العاشر الهجري، حتی فاضت بذلک قریحة الشاعر العظیم الدکتور محمد إقبال رحمه الله ،الذي آثر اللغة الفارسیة لشعره ورسالته، فقال بیته السائد: « إنه لم ینهض من ربوع إیران ، وأرضها الخصبة رجل في منزلة جلال الدین الرومي منذ زمن طویل ، مع أن التربة هي التربة وتبریز هي تبریز ؟؟؟» إنه سؤال مهم وصعب لایزال یطلب منا الجواب الشافي والبحث العلمي » . (21)
وعلی إیران التي بهرت العالم القدیم بذکائها وعبقریتها العلمیة، وعلی خراسان خاصة فإن لها حظا وافرا وفضلا کبیرا في إنجاب هذه الأفذاذ أن تولي هذا الجانب وأن یعید التاریخ فیها نفسه. لعل الله یحدث بعد ذلک أمرا .
المنابع و الأرجاعات
1ـ مقدمة ابن خلدون، ص 9، دار الکتب العلمیة، الطبعة الثانیة
2ـ معجم البلدان، 2/351، دار صادر بیروت
3ـ المرجع السابق
4ـ الإنترنت
5ـ خراسان بزرگ بالفارسیة(خراسان الکبری )، ص 17، مؤسسه انتشارات امیرکبیرتهران،الطبعة الأولی 1363 هـ ش
6ـ معجم البلدان ، 2/350
7ـ المرجع السابق
8ـ الإنترنت
9ـ المرجع السابق
10ـ الموسوعة العربیة العالمیة، 10/30، مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزیع، الطبعة الثانیة 1419هـ
11ـ معجم البلدان ، 2/352
12ـ دائرة المعارف للبستاني، 7/353،دار المعرفة، والإنترنت
13ـ الإنترنت
14ـ خراسان بزرگ، ص 18
15ـ دانشنامه جهان اسلام(بالفارسیة)، 15/283-285، بنیاد دایرة المعارف اسلامی، الطبعة الثانیة 1375 ه ش16ـ المرجع السابق، 15/286-288
17ـ المرجع السابق، 15/289
18ـ الإنترنت
19ـ معجم البلدان، 2/353ـ354
20ـ عیون الأخبار لابن قتیبة، 1/88 ، المکتبة الشاملة
21ـ رحلات العلامة الندوي، ص 276ـ277 ملخصاً، دار ابن کثیر، الطبعة الأولی

سلیم الرحماني