مقدّمة:یتمیّز الإنسان عن الحیوان بأنّه ناطق، قال تعالی: «الرحمن علّم القرآن خلق الإنسان علّمه البیان» {الرحمن:1ـ4}؛ فنّ إلقاء الخطاب هو فنّ النطق بالکلام علی صورة توضح ألفاظه ومعانیه، فیتکوّن الخطاب من الکلمات ثم الجمل ثمّ إلقاءه علی صورة الصوت في معادنه وطبقاته منغماً یناسب المعاني، فیبدو واضحا مبینا جمیلا له وقع علی آذان السامعین، وسمّي […]

مقدّمة:
یتمیّز الإنسان عن الحیوان بأنّه ناطق، قال تعالی: «الرحمن علّم القرآن خلق الإنسان علّمه البیان» {الرحمن:1ـ4}؛ فنّ إلقاء الخطاب هو فنّ النطق بالکلام علی صورة توضح ألفاظه ومعانیه، فیتکوّن الخطاب من الکلمات ثم الجمل ثمّ إلقاءه علی صورة الصوت في معادنه وطبقاته منغماً یناسب المعاني، فیبدو واضحا مبینا جمیلا له وقع علی آذان السامعین، وسمّي فنّاً لا علماً لأنّه یعتمد في أساسه علی الذوق والجمال قبل اعتماده علی القواعد والقوانین. والقواعد والقوانین کالمادة لا بدّ أن یظهر فیها الأثر الفنّي، والفِطرة الفنّیة کالجسم لایغني فخامته وقوّته عن تفاهة النفس وضعفها، فلابد من الروح و النفسیة القویة و سائر الخصائص الرجولیة لحصول الکمالیة فیه فالدراسات العلمیّة الخاصّة بالفنون تصقل الفطرة الفنِّیة وتنمیها، فالتذوّق الفني عند العرب کان معیناً ببلاغة الکلام وبإلقاءه خاصة لأنّ الکلام عندهم کان مسموعاً أکثر منه مقروءاً.
فنون إلقاء الخطاب الجیّد
هذه خصائص و میزات لابد منها في المتکلم أو الخطاب لحصول فنیة الخطاب و روعته و جماله و هي:
1ـ التحضیر الجیّد للموضوع: وذلک بجمع المعلومات والشواهد والمستندات والوثائق، وأن یسند الکلم ویوثقه وأن یجتنب من الموضوعات والکلام الضعیف الإسناد وأن یکون کلامه موافقاً للعقل والنقل والعلم الصحیح، فهناک خطوط لا بدّ من الحرکة علیها وهي خط العقل الصریح وخط النقل الصحیح و خط الفطرة السلیمة و خط العلم الحدیث والنوامیس الکونیّة.
2ـ اختیار موضوع مناسب: الموضوع یکون بمنزلة الرأس فمنه تنشقّ سلسلة الأعصاب الدمویّة وغیرها إلی سائر الأعضاء،ولا بدّ من ارتباط وثیق بین الموضوع والمفاهیم الملقاة إلی المستمعین، ویجب انتخاب الموضوع حسب حاجة الناس ومشاکلهم الاجتماعیّة والعقدیّة وغیرهما، وأن لا یکون غیر مرتبط بالمکان والزمان ونوعیّة الناس، بل یراعي فیه مقتضی الحال، فالکلام عن رمضان في أشهر الحج غیر مناسب، والکلام عن الموت في مناسبة الزواج غیر مناسب وهکذا.
3ـ بیان أهداف الخطاب وغایاته والنتائج المتوقّعة منه في نفسیة المستمعین ومواقفهم.
4ـ التشریع الموضوعي والعرض، یجب أن یکون الخطیب واسع المعرفة بالنسبة للموضوع وملابساته وأن لا یحید عنه ولا یستطرد إلی جوانب غیر مرتبطة بالموضوع کما نشاهد في کثیر من الخطب الّتي تلقی هنا وهناک؛ والموضوعیّة معناه الدقّة والتحدید وتحرّي الموضوع وتشریحه بالتخصّص وتوضیحه مجانباً مواضیع عامّة و واسعة، ولا بدّ من عرض الموضوع بتسلسل منطقي وترتیب عقلي بتنظیم وتنسیق بین عناصر الموضوع.
5ـ من الناحیة الصوتیّة: لا بدّ من رعایة قوانین الصوت والنطق والتجوید في إلقاء الجمل والکلم،من الشدّة إلی الرخاء والهمس فلا یکون المتکلّم متکلّفاً في إلقاء الخطاب بل یکون سلساً بلیغاً فصیحاً مجوداً لیّناً في مواقع اللین، ومشدّداً في مواقع الشدّة وهکذا. ویعطي ألفاظه وجمله موسیقی وإیماءً و وقعاً في السمع لحصول التأثیر في القلوب.
6ـ من الناحیة النحویّة: لا بدّ من مراعاة قوانین نظم الکلام وأجرومیّته لأنّ هذه القواعد بمنزلة صمام الأمان من انحراف الألسنة وحفظاً علی کلّ لغة من الاندثار والانهیار فلا بدّ من تصویر وترسیم الکلام والصور الکلامیّة واضحة المعالم، بیّنة الدلالات، والنحو هو الإطار والتخطیط لبناء صرح الکلم، والقرآن الکریم هو المرجع الأوّل والأساسي الّذي أوحی إلی قرّاءه ودارسیه بقواعد النطق الجیّد السلیم فتمّت بها الصورة اللغویّة العربیّة شکلاً ونطقاً، فالإسقاط في الأخطاء النحویّة والصوتیّة عيُّ وعیبٌ علی الخطیب. والعرب یقول: أخطب من قس بن ساعدة وأفصح من سحبان وأعیا من باقل وجعلوه نقیضاً لقس بن ساعدة.
7ـ من الناحیة البلاغیّة: یزین ویحلي الخطیب کلمه بإیراد الصور البلاغیّة من التشابیه والاستعارات والمجازات والکنایات وغیرها من فنون القول البلیغة بقدر الحاجة وکذلک یستخدم البدیع وفنونه من السجع والجناس والطباق والتضادّ وغیرها ولکن لا بدّ من التنبّه والإشارة إلی أنّ استخدام هذه الفنون یراعی فیها الاعتدال بدون إفراط ولا تفریط، وابتغ بین ذلک سبیلاً. حتّی لا یظنَّ المستمعون أنّ الخطبة هي ألعوبة بالکلمات ویختفي المفاهیم والمعاني وراءها ولذلک حذّر عارفوا الفنون الکلامیّة من تکثیر السجع في الأدعیة والقنوت حتّی لا یلتفت التوجّهات إلی غنائیة الألفاظ والتطریب بها بدلاً من التوجّه إلی الله تعالی والمفاهیم الروحانية السامیة.
ولا بدّ من تنوّع الأسالیب في الخطاب فلا تکون العبارات والجمل بنوع واحد بل یتعدّد من بین الجمل الفعلیّة والإسمیّة ومن الخبریّة إلی الإنشائیّة، والتکرار هو من خصائص الخطاب خلافاً للکتابة، فیکرّر بعض العبارات المهمّة وهو نوع من التأکید و لابدمن الإلمام بدراسة الأسلوب.
8ـ وجود مشاعر وأحاسیس: هذا یعني أن یتفاعل وینفعل الملقي أو الخطیب مع ما یرید إلقاءه وأن یکون له أهمّیة في نفسه وأن یتأثّر به قبل غیره، مع وجود معلومات کافیة وشاملة حول الموضوع.
9ـ استخدام لغة الجسد وهي لغة الجوارح وملامح الوجه والحرکات الجسدیّة والالتفات یمیناً وشمالاً ونبرات الصوت والإشارات ، حسب المواقف والمواضع، فلا یکون الجسد والجوارح ساکنة وعلی وتیرة واحدة، بل یتحرّک الجوارح والملامح تنسیقاً مع الموضوع، کما أنّ بعض نبرات الصوت تجلب الحزن وبعضها تجلب الفرح.ففي مواقع الرحمة و النعمة لابد من همس و ارخاء الصوت و الفرح و في مواضع العذاب و العقوبة لابد من ارتفاع نبرات الصوت و الخوف و القلق ….
10ـ الاختصار الغیر المخلّ بالموضوع، وذلک أنّ الأساس هو الاختصار والإجمال في کثیر من مواقع ومواضع الخطاب راعیاً أحوال المستمعین وقدراتهم، وکما نری أنّ النبي صلّی الله علیه وسلّم کان یختصر جدّاً فالأحادیث الواردة هي مختصرة وقصیرة، ونزل القرآن الکریم مفرقاً مفرقاً کما قال تعالی: «وقرآناً فرقناه لتقرأه علی الناس علی مکث ونزّلناه تنزیلاً»{الإسراء:106} فالاختصار یجانب الإملال والإثقال والنسیان، لأنّ الکلام الطویل ینسی کثیره.
11ـ براعة الاستهلال: وهي أن ینجذب المستمعین إلیه بکلام بدیع وجمیل في المقدمة، ویأتي بکلام غریب وأسئلة حتّی یلفت الانتباهات إلیه ثم یفصیل الکلام والإجابات، وأن لا یطیل في صیغة الحمد والصلوات.
12ـ اغتنام الفرص والمواقع والأحداث والمناسبات لإلقاء الخطابات الملائمة بهذه المناسبات.
13ـ الخاتمة: وفیها تذکر أهمّ أهداف ونتائج الخطاب، ولا بد فیها من الترکیز والاختصار وهي أقرب إلی التذکّر. وإیراد آیات مبارکة مناسبة للختام تعطي الخاتمة التنویر والجمال، والخروج السهل الممتع و هذه أسلوب القرآن الکریم في أکثر خواتم سور کقوله تعالی: «سبحان ربّک ربّ العزّة عما یصفون وسلام علی المرسلین والحمدلله ربّ العلمین»{الصافات:180ـ 182} وکقوله:«فإذا فرغت فانصب وإلی ربّک فارغب» {الانشراح:7 ـ 8}…
والسلام علی من اتبع الهدی

الکاتب:حمزة خالدي نسب