إن من أهم المسؤوليات لمن تربى وتخرج في الجامعات الإسلامية أن يجعل اتصال العامة -لا سيما الشباب- بالمسجد ثابتًا قويًا، فإن المساجد ليست عامرة حقًا، اللهم إلا قدر الصلوات الخمس، ولكن بعد أداءها تغلّق أبواب المسجد ويذهب كل لسبيله!

عن أبي الدرداء -رضي اللّٰه عنه- قال: إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمًا لَا يَنْتَفِعُ بِعِلْمِهِ. سنن الدارمي
وعن عبد اللّٰه بن مسعود -رضي اللّٰه عنه- قال: لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوا الْعِلْمَ، وَوَضَعُوهُ عِنْدَ أَهْلِهِ لَسَادُوا بِهِ أَهْلَ زَمَانِهِمْ،وَلَكِنَّهُمْ بَذَلُوهُ لِأَهْلِ الدُّنْيَا لِيَنَالُوا بِهِ مِنْ دُنْيَاهُمْ فَهَانُوا عَلَيْهِمْ. سنن ابن ماجة
وروي أن رجلًا سأل النبي -صلى اللّٰه عليه وسلم- عن الشر، فقال: «لَا تَسْأَلُونِي عَنِ الشَّرِّ، وَاسْأَلُونِي عَنِ الْخَيْرِ». يَقُولُهَا ثَلَاثًا. ثُمَّ قَالَ: «أَلَا إِنَّ شَرَّ الشَّرِّ شِرَارُ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّ خَيْرَ الْخَيْرِ خِيَارُ الْعُلَمَاءِ» سنن الدارمي
لقد سرني لقاءكم بعد ما طال العهد بيننا، تقبل الله منا ومنكم هذا الحضور وجعله سببا للخير. يمكن أن يكون ما أقول تكرارًا وإعادة؛ ولكن وفقًا لقوله -صلى اللّٰه عليه وسلم-: «لَنْ يَشْبَعَ الْمُؤْمِنُ مِنْ خَيْرٍ يَسْمَعُهُ حَتَّى يَكُونَ مُنْتَهَاهُ الْجَنَّةُ»  نعيد ما تدارسناه سابقا عسى أن يقع نافعًا.
 أيها الأعزة
قد ضرب اللّٰه لنا بحصة من العلوم الشرعية -وإن كانت مزجاة- ونحن مسؤولون عنها ولا يمكننا أن نتخلى عنها، والمسؤولية خطيرة وجليلة حقا؛ فما أكثر الموظفين والمواهب التي تُستعمل لتعمير دنيا الناس، وقد استرعى اللّٰه العلماء على دينهم، ولّاهم صيانته، فالمسؤولية جسيمة ولا يمكننا التخلي عنها، فنحن عند اللّٰه مسؤولون ومؤاخَذون تجاهها؛ علينا أن لا ننسى هذا، ولا يكننا التخلي عنها بأي تأويل وتبرير، وكل مكلف بأداءها قدر وسعه بأي صورة ممكنة.
قد أجلس وأتفكر: ماذا سيكون مصيرنا وما هو جوابنا في الآخرة تجاه هذه المسؤولية العظيمة التي أثقلنا بها ظهورنا؟!
أريد أن أختصر الكلام وأكتفي بذكر بعض أهم الوظائف للعلماء:
الأول:
إن من أهم المسؤوليات لمن تربى وتخرج في الجامعات الإسلامية أن يجعل اتصال العامة -لا سيما الشباب- بالمسجد ثابتًا قويًا، فإن المساجد ليست عامرة حقًا، اللهم إلا قدر الصلوات الخمس، ولكن بعد أداءها تغلّق أبواب المسجد ويذهب كل لسبيله!
لا بد أن يكون مسجد الحي حيًا عامرًا بالبرامج البنّاءة المتنوعة لطوائف مختلفة من الناس من التفسير والحديث وتعليم القراءة وشرح الأحكام والآداب.
قد نرى إمامًا لا يعرف أهل الحي؛ فهذا يشعر بأنه لم يقم بوظائفه حق القيام، فعليه أن يستعين بأحد من زملاءه في القيام بواجبه وتنفيذ البرامج المفيدة -وإن من أكبر العراقيل أمامنا أن المسجد الواحد لا يسع عالمين اثنين-، ثم أي بأس في أن يساعد العالمُ الإمام بأن يجول في أهل الحي ويدعوهم إلى المسجد؟
فلا بد من تحقيق صلة الناس -لا سيما الشباب- بالمسجد، وليحظ العالم بجاذبية تجرّ الشباب والمراهقين نحو المسجد، فكل النشاطات الدينية قبل تحقيق هذا الهدف فردية وشخصية. فلا بد من تواصل بين العلماء والأئمة لتحقيق هذا المهم.
إن النشاطات والبرامج التي يمكن إجراءها في المسجد لا تدخل في الحصر، فإن المسجد قطب ومقر، والتخطيط لهذا المهم يختلف بحسب الظروف، والطبائع، والقدرات.
والثاني:
وهو كذلك من أهم الواجبات إزالة الشكوك والشبهات المتعلقة بالإسلام وشرائعه عن أذهان الناس. لا يخفى عليكم أن أذهان كثير من الناس مليئة بكمية ضخمة من الشبهات التي صبّتها القنوات الفضائية ووسائل الإعلام في أذهان الناس بالغارات العنيفة تشنّها ضدّ الإسلام والمسلمين.
أتاني شخص قبل أيام فقال: إن أخي صار ملحدًا ولما أنكرت عليه قال: إني أعتقد ما أعتقد منذ سنوات وكثير من الشباب ملحدون، ولكنهم لا يجاهرون بمعتقداتهم لبعض الأسباب وأنا أعرف الكثير منهم. هذا ما يجري حاليًا في مدينة صغيرة كمدينتنا. هذا صفارة إنذار تنذرنا بمروق عدد كبير من الناس من الدين.
كان يقرأ مولانا أبو الكلام آزاد هذا الشعر باللغة الأردية في برلمان «الهند» على عدد كبير من الممثلين والرئيس والوزراء -وترجمته-:
لا تعتذر بأعذار باردة! قل لي لم نُهبت القافلة؟ أخبرني أين ذهبت أمتعة الناس؟ فإني لا أشكو اللصوص وقطاع الطرق، فالنهب والغصب والقتل والفساد مهنتهم، ولكن سؤالي وعتابي وغضبي موجهة إليكم يا زعماء ويا ولاة أمور الناس وحفظة أموالهم.
العلماء زعماء الناس في دينهم وعقيدتهم، ولا يعقل أن نسأل الدجالين أن يوقفوا سلسلة التشكيك وإثارة الشبهات، بل علينا نحن -الذين يدعون الزعامة الدينية والمجتمع يعرفهم بها- أن نقود القافلة في طرق سليمة آمنة تؤمّنها من مكائد الأعداء، وتُبلغهم مأمنهم سالمين غانمين.
لا يفوتنّكم أن الوقوف على الأجوبة الدامغة لهذه الشبهات وحده لا يكفي لقلعها واستيصالها، بل ما أحسه أن الأمة مرهقة منهكة من تكاثف هذه الشبهات وأمثالها تبحث عن مكان أو شخص روحاني تلتجئ به وتتنفس الصعداء وتستريح.
كما حكي أن شخصًا رأى الإمام محمدًا فأسلم وقال: «هذا محمدكم الأصغر، فكيف كان محمدكم الأكبر؟!»
فمن الضروري أن نكون على مستوى رفيع من الإيمان ليتأثر بنا من يزورنا، ويجب علينا أن نلبي جميع حاجات الناس، ونسدّ جميع نقائصهم.
يقول العلامة أقبال:
الأخلاق هي أقوى وسيلة وميزة لدى الأقوام، وهي الحسام المقصل لكل قوم، وإن قومًا انحطت أخلاقهم، وفسدت عشرتهم لا وقع لهم ولا يقيم العالم لهم وزنًا.
نكتفي بدراسة بعض الكتب وتعلم عدد من المسائل الشرعية، ثم نتوقع الكثير -من التوقير والتكريم والثناء والاستماع- من الناس.
أي فضل لنا على الناس…؟! إلا إذا حمَلنا كل ما حُمّلنا، ولبينا كل حاجات المجتمع.
فلنتعلم نهج الدعوة الصحيح!
إن هذه المدارس كانت مصدرًا لرجال يسع كل واحد منهم إحالة قومه، منهم الشيخ مطهري، والشيخ عبد العزيز رحمه اللّٰه في بلوشستان من نعرفهم، انظروا إلى إنجازات حققوها؛ ولكن المدارس فقدت اليوم خاصتها فهي عاقر لا تلد رجالا، ما السبب؟!
السبب أنه لا محبة ولا معرفة ولا تدبير -كما قال العلامة إقبال -رحمه الله-.
لعلكم سمعتم عن كثير من الأساتذة أن العلامة أنور شاه كشيميري -رحمه الله- كان يقول للخرجين كل سنة: لو ظننتم أن قد تفرغتم من الدراسة ونبذتموها وراء ظهوركم وستُقلَّدون وظيفة -تعمُرون بها دنياكم- فقد خسرتم الدنيا والآخرة؛ فإن موضوع هذه العلوم الآخرة، فمن طلب علمًا من علوم الآخرة للدنيا فقد خسرهما.
عصارة القول أن من أهم مسؤوليتنا اليوم تحسين علاقة الناس بالمساجد ودمغ الشكوك والشبهات.
وأضيف نكتة أن للدعاء أثرًا إيجابيًا كبيرًا في جميع زوايا الحياة ومراحلها.
لقد كان المفتي «زرولي خان» يبالغ في التأكيد على الدعاء، وكثيرًا ما كان يوصي الطلبة بالتزام الدعاء في كل حال: ماشيًا، وجالسًا، في كل لحظة وحين، وكان يقول: إن كل ما لي من النجاحات والإنجازات بفضل الدعاء، ولي طريقة خاصة في الدعاء، وجاءه أحد يوم الجمعة وقدّم شكواه من ولده وسأله الدعاء. فقال له: هل قمت ليلة كاملة تدعو وتستغيث لحل مشكلة؟ فأجاب: لا! فقال: إذا قمت ليلة بأسرها ولم تر الإجابة فارجع، فإن في كل ليلة ساعة استجابة، أنا لست خادمك! تنام الليل وتستريح وتطلب من أشدّ مئزري لحاجتك؟!
ولم يكن يرد الشيخ أنه لا يدعو له! بل أراد أن ينبهه بما يفوته من فضائل الدعاء.
فليؤمن المسلم بأن الدعاء لن يخطئ، كما صرّح الحديث، وقد تختلف صور الإجابة، وقد تتأخر، وقد لا يُتفطن لها.
وأوصيكم أخيرًا ولا آخرًا بالتزام الأخلاق الحسنة، وطيب العشرة، واللين، وترك الفظاظة والقسوة، والمثابرة والاحتمال في سبيل الدعوة! وإياكم واليأس؛ فإن التأييس أكبر وأنفذ حيلة للشيطان، فإذا جاء اليأس ذهب النجاح. وسيرة الأنبياء خير آية للمثابرة والاحتمال، وما أحسن كلام أهل التبليغ: «الدعوة هي شأننا ولا شأن لنا بالنتيجة. فالنتيجة من اللّٰه، ولا يسعنا إلا الدعاء والإلحاح فيه.
وقد نسمع في الحديث: «وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا ؛ سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّة».
فالطالب مكلب بالالتماس، ما يحقق من العلم هو النتيجة، ولا شأن له به؛ لأن المطلوب هو الالتماس.
فما علينا إلا البلاغ المبين ولسنا مكلفين بإكراه الناس.
وفقنا اللّٰه جميعا لما يحب ويرضى، وآخر دعوانا أن الحمد للّٰه رب العالمين.