لعلك قد سمعت بأسماء المحدثين؛ لاسيما أصحاب الصحاح الستة فمنهم أمير المؤمنين في الحديث الإمام «محمد بن إسماعيل البخاري» المتوفى ٢٥٦ هـ.ق من سمرقند، والإمام «مسلم النيسابوري» المتوفى ٢٦١ هـ.ق صاحب أصح الكتب بعد صحيح البخاري، والإمام «أبو داود السجستاني» المتوفى ٢٧٥ هـ.ق من البلاد الماضية في محافظة سيستان وبلوشستان، و الإمام «أبو عيسى الترمذي» من مدينة ترمذ الواقعة في

إن الأمة الإسلامية في بحر القرون ومنذ شروق بدره من الجزيرة إلى أن وسّعت من حدود لألأته حتى وسعت هدايتها جميع أقطار العالم، وعم ضوءه الشعوب والأعراق كانت مصدر الأعاجيب والانجازات الباهرة، ومنشأ الرجولات والبطولات الخالدة، ومنبع الإبداعات والاكتشافات الفريدة، ومبدأ الهدايات والتحولات المنجية؛ فلا يتأتى لباحث منصف ولا مؤرخ عدل أن يروي عن تطورات علمية أنجزها البشر عبر العصور، والعمارات المشيدة التي شيدها البشر في غابر الأزمان، والجامعات المترقية علماً ومنهجًا، والاستراتيجيات العسكرية المشهودة بغض النظر عن أمتنا الإسلامية المحمدية على صاحبها أفضل الصلوات والتسليمات وهجر ذكرها؛ فالمحققون يعرفون حق المعرفة أن تقلب صفحات التاريخ لا يمكن إلا برؤية مجد الأمة الإسلامية وروعتها؛ بل والحق والإنصاف أن يقال بلغ المسلون مبلغا من العلم والعقيدة والسجايا النبيلة والمجد والكفاية والإدارة إن أراد الله ببلد خيرًا، وأراد أن يخرجه من الظلمات إلى النور، ومن الانطواء على النفس إلى العالم المترامي الواسع، وأراد الله أن يسلط عليه أضواء قوية من العلم والتحقيق ساق إليه المسلمين؛ وهم الذين لم يعتبروه بقرة حلوبا أو ناقة ركوبا يحلبون ضرعها ويركبون ظهرها، ثم يتركونها هزيلة؛ بل ووهبوا هذه البلاد عقيدتهم العليا، ورسالة وأخلاقًا ومقدرة وتنظيمًا؛ فنقلوها من طور البداوة إلى طور الحضارة، وتحولت الصحاري الموحشة والأراضي القاحلة إلى مدن زاخرة، ونشأت علوم لا علم بها للأولين، وفنون وأساليب في الحضارة والحكم والفن لا عهد بها في الماضي؛ فكأنما ولدت هذه البلاد في العهد الإسلامي ميلادا جديدا، ولبست ثوبا قشيبا.
هذه قصة إسبانيا التي سماها المسلمون بلاد الأندلس؛ فلم يكن العالم يعرف عنها إلا الشيء القليل؛ فلما دخلت هذه البلاد في ولاية المسلمين وفي حضانة الإسلام صارت جنة الدنيا وسوق العالم ومثابة العلماء، وكانت فيها إشبيلية، وقرطبة، وغرناطة، البلاد التي كانت تحتوي على الأقل ٨٠٠ مدرسة و١٧٠٠ جامعا يدوّي من منابرها الشامخة الذاهبة في السماء الأذانُ خمس مرات كل يوم، ونشأ بها كثير من عظماء البشر وأعلام الأمة الإسلامية منهم: العالم الجليل في التفسير «الإمام القرطبي»، والعالم المفسر النحوي العملاق «أبو حيان الأندلسي الغرناطي» صاحب تفسير «البحر المحيط»، والعالم المخترع «عباس بن فرناس»؛ وهو أول من ابتدأ بالطيران، والعالم المبتكر «أبو القاسم الزهراوي» الذي يعد أكبر جراح طول الدهور؛ وقد ابتكر كثيرا من الآلات والطرائق التي تستعمل إلى يومنا هذا في عملية الجراحة،  وحافظ الشرق الإمام «ابن عبد البر الأندلسي» العبقري في الحديث، وتخرج فيها الجغرافي الكبير راسم الخرائط «أبو عبدالله محمد بن محمد الإدريسي» الهاشمي القرشي المغربي المتوفى ٥٦٠ هجريا تقريبا؛ وقد اشتهر الإدريسي بكتابه: «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» الذي ألدّ فيه أن الأرض كروية الشكل، ورسم فيه الخريطة العالمية -رحمهم الله أجمعين-؛ وكانت بها الجامع الكبير، ومدينة الزهراء التي كانت أشبه بحلم وبصورة خيالية في فن العمارة والزخرفة، وقصر حمراء، وما فيها من المعالم ومظاهر المجد والرقي الذي لا يحصيها إلا من أحصا حصى البطحاء.
وإذا استرعى انتباهك حضارتنا في الأندلس؛ فهذا لا يغنيك عن معرفة شمال أفريقيا من ليبيا إلى مراكش، فنبت فيها جامع القرويين التي تعد من أول الجامعات على وجه الأرض؛ بعد ما كانوا في جهل، وحروب متلاحقة، وعدم التعرف إلى لغة راقية وحضارة سامية؛ ومما يثير العجب إحراز قصب السبق من جانب امراة من المسلمين بتأسيسها، وهي فاطمه بنت محمد الفهري؛ وهذا الذي يحدثنا عن ذروة سنام الحضارة الإسلامية.
قد أنجبت هذه البلاد أفذاذًا في الحديث والتفسير والفقه والفلسفه مما يطول استقصائهم؛ ولكن مع هذا أيها القارئ الحبيب لا يفُوتنّك السير في البلاد التي قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها: «لَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِالثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ أُنَاسٌ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ». رواه أحمد. فإنه أرض الأعلام النبلاء؛ ومن العجب العجاب أن زخر المكتبات،من وزينة الثقافة، وازدهار الحضارة بالعلم والأدب؛ والجهابذ، وأئمة الحديث، والتفسير، والفقه، والأصول، والنحو، والفيزياء، والفلسفة، والهندسة ما حدث إلا بعد أن دخلوا الإسلام، ورسخ في نفوسهم؛ ولكني أعرف أنه ليس بمستطاعي أن أستوعب ضواحي هذا التمدن، وأستقصي كواكب هذه السماء التي لا علم لي بمداها؛ فأقتصر بذكر الجزء ليدل على الكل.
لعلك قد سمعت بأسماء المحدثين؛ لاسيما أصحاب الصحاح الستة فمنهم أمير المؤمنين في الحديث الإمام «محمد بن إسماعيل البخاري» المتوفى ٢٥٦ هـ.ق من سمرقند، والإمام «مسلم النيسابوري» المتوفى ٢٦١ هـ.ق صاحب أصح الكتب بعد صحيح البخاري، والإمام «أبو داود السجستاني» المتوفى ٢٧٥ هـ.ق من البلاد الماضية في محافظة سيستان وبلوشستان، و الإمام «أبو عيسى الترمذي» من مدينة ترمذ الواقعة في
أوزبكستان المتوفى ۲۷۷هـ.ق، والإمام «أبو عبد الرحمن أحمد بن علي النسائي» المتوفى ٣٠٣هـ.ق من البلاد القديمة في إيران، والإمام «أبو عبد الله محمد بن ماجة القزويني» المتوفى ٢٧٣هـ.ق؛ فهذه الأسماء المقدّمة إليكم كانت لرجال حرك اللسان وأجرى القلم بمدحهم، وتعظيم شأنهم، ودقة بحثهم المحققون من الكفرة والمسلمين؛ وكانوا جميعا من بلاد الفارس حديثا أو قديما؛ وفي الفقه تعرف إلى الإمام الأعظم «أبا حنيفة» -رحمه اللّٰه- الذي ينتسب إلى ساسانيين والإمام «أبا الحسن الماوردي» صاحب كتاب «الحاوي» من أهم مراجع الشافعية، والإمام أبا إسحاق الشيرازي صاحب «التنبيه والتهذيب في الفقه»، والإمام «أبا الحسن المرغيناني» صاحب «الهداية» التي لا تزال تقرأها الطلبة في المناهج الدراسية، وفي أصول الفقه أيضا لقد ربى الإسلام من فارس رجالا قلما يوجد بديل لهم؛ منهم: الإمام «الغزالي» وكتابه الفريد في طريقة المتكلمين «المستصفى» من خراسان، وإمام الحرمين أبو المعالي «عبدالله الجويني الخراساني» شيخ الغزالي ألف «البرهان» في طريقة المتكلمين، والإمام «أبو العسر محمد بن الحسين البزدوي» صاحب «أصول البزدوي» من مراجع الأصول على طريقة الفقهاء أي الحنفية، وشمس الأئمة «ابن أحمد السرخسي الخراساني» صاحب «أصول السرخسي»،  والآن تعرف في علم التفسير إلى الإمام المتكلم «فخر الرازي» صاحب «التفسير الكبير» الذي يعد من أثمن مراجع التفسير التي تلقى القبول لدى العلماء، والإمام «البيضاوي» صاحب «التفسير البيضاوي» ، وإذا عرفت بعض البارعين في الحديث والفقه و دالأصول والتفسير  يكفيك في النحو بسماع اسم إمام النحاة الإمام «السيبويه» وكتابه المرجع المسمى بــ»الكتاب» فكان من شيراز، والآن استمع إلى اسم فريد عصره في الهندسة «أبي عبد اللّٰه محمد بن موسى الخوارزمي» المتوفى ٢٦١هـ.ق تقريبا؛ كاشف الجبر والمانّ على الهندسة بكتابه في الحساب الموجود بالإنجليزية، وكتابه «المختصر في حساب الجبر والمقابلة» بالعربية والإنجليزية، وهذا «محمد بن زكريا الرازي» المتوفى ٩٣٢هـ.ق طبيب کیماويّ كشف الكحل والجدري، وفي الفلسفة والمنطق يلفت الأنظار «أبو نصر الفارابي» شارح مؤلفات «أرسطو» والملقب بالمعلم الثاني لمزاولته بشرح كتب أرسطو وترتيبها، والفيلسوف الطبيب ابن سينا و»أبو ريحان البيروني» وقد صنف في الفلك والتاریخ وإعلام السنن وأنماط حیاة بعض البلاد.
هذه ما كانت إلا جزءًا يسيرًا من بعض ضواحي حضارتنا الإسلامية الحافلة في إيران القديمة.
وقد تركتُ استقراء أخبار كثير من المدن كالشام والمصر والحجاز والهند، ومن العلوم النجوم والتاريخ والسياسة والصناعة وغيره حذرا من طول الكلام وضيق المقام.
يجب الآن أن نعلم أن لأمتنا سهم جسيم وفضل مشهود في تحقيق كل هذه التطوارات، وظهور هذه النوابغ؛ الذین استأثروا ببناء أصول اکتشافات الجدیدة؛ ولكن الأمر الأول الذي يجب الإكتراث به ولقد أهمّني وألّمني هو كتم أسماء هذه النبلاء عند تذکار النبغاء، وأحيانا الخيانة بقلب الشخصيات وإبداء رديئها عاليا وعاليها رديئا سيئا؛ ولا غرو! فإنه علیهم لشاق وثقيل مثاقيل الجبال أن يقرّوا بأن منجزاتهم ينشأ من العقول والأفكار التي رباها الإسلام، وابتدأ ترعرع الجامعات والعلوم والرجال في المجتمعات التي دخلها الإسلام، ومنها انبثت إلى سائر بلدان العالم؛ وتزداد المصيبة لما تقع الأعين على بعض المسلمين بضمائر غافلة، وأحاسيس منطفئة، وأذهان خالية عن الإحاطة بتاريخنا الذي ازدان به صفحات التاريخ و قد قيل: «الأمة التي تعرف ماضيها تُحسِن صناعة مستقبلها». فالتاريخ هوية كل أمة، وفيه دروس وعبر.
الأمر الثاني: لما تتأمل في التاريخ تتذوق وتشتاق أن ترى حواليك وفي حاضر الأمة عباقرة عمالقة في ميادين شتى؛ والذي يسيئك هو تنازل الأمة عن موقفها، وتأخرها عن تصدر المجامع العلمية؛ مع أنه كان دأبنا وميراثنا الذي ورثناه كابرا عن كابر؛ فلا بد من شد المآزر وجمع العزائم نحو مجدنا التليد من جديد! وهذا لا يشق علينا؛ فنحن أمة «اقرء» وقد تعودنا بسهر الليالي، وترك الشهوات، والرغبة عن الدنيا، وعن دواعي الغفلة، والعزلة للحصول على المعالي لرضى الرحمن؛ فلا داعي لليأس! فابدأ السعي، وتربية جيل يسترد مجدها ويأخذ قيادة طليعة البشرية. ومن الله التوفيق.
بإمكانك مراجعة بعض الكتب للوقوف على التاريخ، منها:
«مئة من عظماء أمة الإسلام غيروا مجرى التاريخ» لجهاد الترباني، «تاريخنا المفترى عليه» للشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، «رجال الفكر والدعوة في الإسلام» للعلامة أبي الحسن علي الندوي.
  • نویسنده: محمد ماري