مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا. الآيةو قال النبي (ص): خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم . الحديثأما بعد نريد أن نذهب أيها القاري إلي قرون الغابرة المزدهرة للأمة الإسلامية و إلي تاريخنا المجيد و أن نتذاكر يوم كنّا سعداء […]

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا. الآية
و قال النبي (ص): خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم . الحديث
أما بعد نريد أن نذهب أيها القاري إلي قرون الغابرة المزدهرة للأمة الإسلامية و إلي تاريخنا المجيد و أن نتذاكر يوم كنّا سعداء و نُقِرَّ أعيننا بذكر رجالٍ الذين لم يلههم شئ عن ذكر الله و إقامة الصلاة و الحدود الإلهية ، الذين لم يخافوا في الله لومة لائم ، و قضوا نحبهم في سبيل أعلاء كلمة الله .
و لو تصفّحنا أوراق التاريخ نري رجالا هم شموس الهداية و نجوم الدراية و الرواية و تلألوا في سماء البشرية و أرشدوا الإنسانية إلي السعادة الأبدية و أتوا بالروائع الإيمانية الخالصة و جدّدوا الدين بصبغة الإلهية في كل عصر و مصر و نتمثل فيهم الإنسانية بجميع نواحيها و جوانبها و تربّوا تربية خلقية روحّية سامية و مهّدوا الطريق لمستقبل هذه الأمة و لسير الأمم الإنسانية نحو الكمال الروحية و الخلقية و أرقي مراتب الكمال للإنسان و نفخوا فيهم روحاً جديداً و أنجاهم من الغرق في الشهوات و الميول النفسانية و الخوض في زخارف الحيوة الدنيا و بهجتها و زهرتها و حققّوا الإيمان بكل معانيه و سابقوا إلي الخيرات و سارعوا إلي مفغرة من ربّهم و حرصوا و حرّضوا علي كل انواع البّر و غرسوا الإيمان في قلوب الشعوب و الأمم و أحيوا فيهم جميع جوانب الحياة الإسلامية.و الان اليك نبذة من حياة أحد هولاء الصفوة المختارة:
في العشر الأخير من شهر (( ذي الحجة )) سنة سبع و تسعين للهجرة في بيت الله الحرام في مقام يستوي فيه الملوك و السُّوقة و لا يفضل فيه أحدٌ أحداً إلا بالقبول و التقوی كان الناس مزدحمون خلف رجلٍ و هو مشغول بصلاته غارقاً في ركوعه و سجوده و كانوا ينتظرون فراغه من صلاته .
حتي ان سليمان بن عبدالملك خليفة المسلمين و أعظم ملوك الأرض اتّجه و من ورائه و لداه و جلس حيث انتهي به المجلس و أجلس معه و لَدَيْه. و لما انتهي الرجل من صلاته مالَ بشقه علی الجهة التي فيها الخليفة ، فاذا هو شيخٌ حبشي ، اسود البشرة ، مفلفل الشعر ، أفطس الأنف ، إذا جلس بدا كالغراب الأسود و أقبل عليه الخليفة و جعل يسأله عن مناسك الحج منسكا منسكا و هو يفيض بالإجابة عن كل مسأله. و لما انتهي الخليفة من مُساءلته جزّاه خيراً و قال لولده : هذا الذي رأيته يا بُنَيَّ ورايت ذُلّنا بين يديه هو عطاء بن أبي رباح صاحب الفتيا في المسجد الحرام و وارث (( عبدالله بن عباس )) في هذا المنصب ثم أردف يقول : يا بني تعلموا العلم ، فبالعلم يشرف الوضيع و ينبه الخامل و يعلوا الأرقّاء علی مراتب الملوك .
لم يكن سليمان بن عبدالملك مبالغاً فيما قاله لابنه في شان العلم . فقد كان عطاء بن أبي رباح في صغره عبداً مملوكا لامرأة من أهل مكة غير أن الله جلّ و عزّ أكرم الغلام الحبشي بأن وضع قدميه منذ نعومة أظفاره في طريق العلم و لما رأت السيدة المكية أن غلامها قد باع نفسه لله و وقف حياته علی طلب العلم تخلت عن حقها فيه و أعتقت رقبته تقربّا لله عزوجل لعل الله ينتفع به الإسلام و المسلمين.
و هكذا كان ، و قد بلغ هذا التابعي الجليل ( عطاء بن أبي رباح ) منزلة في العلم و سَما إلي مرتبة لم ينلها إلا نفر قليل من معاصريه.
فقد رُوي أنّ عبدالله بن عمر أمَّ مكة معتمراً فأقبل الناس عليه يسألونه و يستفتونه فقال : إني لَاَعْجَبُ لكم يا أهل مكة أَتجمعون لي المسائل لِيسألوني عنها و فيكم عطاء بن أبي رباح و قد وصل عطاء بن أبي رباح إلي ما وصل إليه من درجة في الدين و العلم بخصلتين:
أولاهما : إنه أحكم سلطانه علی نفسه فلم يدع لها سبيلاً لِتَرتَعَ فيما لا ينفع.
و ثانيتهما : إنه أحكم سلطانه علی وقته فلم یهدره في فضول الكلام و العمل.
و لقد أقبلت الدنيا علي عطاء بن أبي رباح فأعرض عنها أشد الإعراض و أباها أعظم الإباء و عاش عمره كلّه يلبس قميصاً لا يزيد ثمنه علي خمسة دراهم و لقد دعاه الخلفاء إلي مصاحبتهم فلم يجب دعوتهم لخشيته علي دينه من ديناهم لكنه مع ذلك كان يفد عليهم إذا وجد في ذلك فائدة للمسلمين أو خيراً للإسلام.و قد عُمِّر عطاء بن أبي رباح حتی بلغ مائة عامٍ ملأها بالعلم و العمل و أَترعها بالبر و التقوي و زكّاها بالزهادة بما في أیدي الناس و الرغبة بما عندالله فلمّا أتاه اليقين وجده خفيف الحِمل من أثقال الدنيا كثير الزاد من عمل الاخرة.
( تلخيص من كتاب صور من حياة التابعين )
حاجة أديان إلي الرجال الأحياء
((و السرّ في ذلك أن الأديان لا تعيش و لا تزدهر و لا تعود إلي نشاطها و شبابها بعد اضمحلالها و ضعفها و لا تنسجم مع المجتمع المعاصر و لا تتلائم و مع روح العصر إلا عن طريق الرجال النوابع الذين يظهرون فيها حيناً بعد حين يملكون الإيمان القويّ الجديد و سموّاً روحياً لا يشاركهم فيه عامة الناس و نزاهة ممتازة عن الإغراض و عزوفاً عن الشهوات و تفانيا في المبادئ و العقائد و في سبيل الدعوة و ينفخون في أمتهم روحاً جديداً . ))

غیاث الدین السلطان زاده