المقدّمة:من المباحث المهمّة المعنیّة في العقیدة هي مبحث الصفات المتشابهات الواردة في الکتاب والسنة من قبیل العین والید والساق والوجه والأصابع والرضا والغضب والنسیان والاستواء وغیرها والتي صارت من قدیم الزمن مثار الجدل والنقاش وکثرت القالة والقیل فیها وارتفع الضجیج والأصوات لأجلها وحار بعض الناس فیها فضلّوا وأضلّوا واهتدی فریق إلی الصواب والسداد ووجدوا الطریق […]

المقدّمة:
من المباحث المهمّة المعنیّة في العقیدة هي مبحث الصفات المتشابهات الواردة في الکتاب والسنة من قبیل العین والید والساق والوجه والأصابع والرضا والغضب والنسیان والاستواء وغیرها والتي صارت من قدیم الزمن مثار الجدل والنقاش وکثرت القالة والقیل فیها وارتفع الضجیج والأصوات لأجلها وحار بعض الناس فیها فضلّوا وأضلّوا واهتدی فریق إلی الصواب والسداد ووجدوا الطریق الأسلم فنجوا عن الهلاک وهُدُوا إلی الرشد، فلأهمّیة الموضوع ومکانته في العقیدة وحاجة الإخوان المسلمین في زماننا هذا إلی العلم الصحیح الموافق للشریعة الغرّاء والسلف الصالح نتصدّی في هذا المقال الموجز لبیان أهمّ المسائل في الصفات المتشابهات وهي کما یلي:
ما هي العقیدة الصحیحة فیها؟ ومن هي الفرقة الناجیة؟ ومن هم الفرق الضالّة؟ وهل یجوز تأویل هذه الصفات عند الضرورة فراراً عن التجسیم والتشبیه أو نترکها کما هي ولو أدّی ذلک إلی إیهام النقص في ذات الله وفي کتاب الله؟
الفِرَق الضالّة:
المشبّهة: وهم فرقة أثبتوا لله الجسم، وقال بعضهم: إنّ معبودهم جسم، ولحم، ودم وله جوارح وأعضاء من یدٍ، ورجل، ورأس، ولسان، وعینین، وأذنین ومع ذلک جسم لا کالأجسام ولحم لا کاللحوم ودم لا کالدماء وکذلک سائر الصفات وهو لا یشبه شیئاً من المخلوقات ولا یشبهه شیءٌ .(1) وأنّهم أجازوا علی ربّهم الملامسة والمصافحة وأن المسلمین المخلصین یعانقونه في الدنیا والآخرة إذا بلغوا في الریاضة والاجتهاد إلی حدّ الإخلاص والاتّحاد المحض.
وزادوا في الأخبار أکاذیب وضعوها ونسبوها إلی النبي وأکثرها مقتبسة من الیهود، فإنّ التشبیه فیهم طباع حتّی قالوا: اشتکت عیناه فعادته الملائکة، وبکی علی طوفان نوح حتّی رمدت عیناه.
الکرامیّة أو المجسّمة: وهم أیضاً فرقة توهّموا الله جسماً له جسم وحدٌّ ونهایة من تحته.
نصّ أبو عبدالله(وهو من الکرامیّة) علی أّنّ لمعبوده علی العرش استقراراً وعلی أنّه بجهة فوقه ذاتاً وأطلق علیه اسم الجوهر، ومنهم من قال: إنّه علی بعض أجزاء العرش، وقال بعضهم: امتلأ العرش به، وصار المتأخّرون منهم إلی أنّه تعالی بجهة فوق وأنّه محاذٍ للعرش؛ ثم لهم اختلاف في النهایة له من ستّ جهات، ومنهم من أثبت له من جهة تحت ومنهم من أنکر النهایة له فقال: هو عظیم، وأطلق أکثرهم لفظ الجسم علیه والقاربون منهم قالوا: نعني بکونه جسماً أنّه قائم بذاته، وهذا هو حدّ الجسم عندهم.(2)
فکلّ من أثبت لله تعالی ما أثبت هؤلاء الضلال من الجسمیّة والشبه ضالٌّ غاوٍ ونحن نتبرّأ من رأیه واحتجاجاته السخیفة، ونکل أمره إلی الله.وقال الذهبي في سیر أعلام النبلاء ج10/611ـ610 في ترجمة نعیم بن حماد ـ ت 229 ـ بعد أن ساق بسنده إلیه قوله: من شبّه الله بخلقه فقد کفر(3)، ومن الفرق الضالّة فرقة تجحد الصفات جحودا تامّاً لا نتطرّق لتفاصیل عقیدتهم ونکتفي بما قال فیهم «مجد بن أحمد المکّي» شارح العقیدة الإسلامیّة للعزّوز بعد أن ذکر کلام الذهبي في تکفیر المشبّهة: قلت هذا الکلام حقٌّ، نعوذ بالله من التشبیه وإنکار أحادیث الصفات، فما ینکر الثابت منها من فَقِهَ، وإنّما بعد الإیمان بها مقامان مذمومان: تأویلها وصرفها عن موضوع الخطاب، فما أوّلها السلف ولا حرّفوا ألفاظها عن مواضعها، بل آمنوا بها، وأمرّوها کما جاءت(4).
الفِرقة الناجیة:
للفرقة الناجیة مذهبان یتّفقان في المآل والأهداف من عدم التشبیه وعدم النقص في ذات الله ویختلفان في الألفاظ والأشکال، ونبیّن کلا المذهبین مع أقوالهما وآراءهما واحتجاجاتهما الّتي تستند إلی الأدلّة القاطعة والبراهین الدامغة ممّا لا تدع ریباً ولا شکّاً بل تنیر السبیل لمن یرید الاستیضاح والإبانة عن عقیدة الصفات وهل یجوز تأویلها أو لا یجوز؟ وهل أئمّتنا وعلماءنا عبر التاریخ الإسلامي قاموا بالتأویل أو ترکوه؟! وهل یتّهم المؤوّل المنصف بالخروج عن الملّة والإسلام؟
مذهب السلف:
مذهب السلف هو عدم الخوض في أيّ تأویل أو تفسیر لهذه النصوص، والاکتفاء بما أثبته الله لذاته مع تنزیهه عزّ وجلّ عن کلّ نقص ومشابهة للحوادث، وسبیل ذلک التأویل الإجمالي لهذه النصوص، وتحویل العلم التفصیلي بالمقصود إلی علم الله؛ أمّا ترک هذه النصوص علی ظواهرها دون أيّ تأویل لها، سواء کان إجمالیاً أو تفصیلیاً فهو غیر جائز، وهو شيء لم یجنح إلیه سلف ولا خلف. کیف ولو فعلت ذلک لحمّلتَ عقلک معاني متناقضة في شأن کثیر من هذه الصفات. فقد أسند الله إلی نفسه العین بالإفراد في قوله تعالی «وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي » {طه،39} وأسند مرّة أخری إلی نفسه الأعین بالجمع فقال: «واصبر لحکم ربّک فإنّک بأعیننا» {الطور،48} فلو ذهبت تفسِّر کلّاً من الآیتین علی ظاهرها دون أيّ تأویل لألزمت القرآن بتناقض هو منه بريء؛ وتقرأ قوله تعالی: «الرحمن علی العرش استوی» {طه:5} وقوله:«ونحن أقرب إلیه من حبل الورید» {ق:16} فإن فسّرت الآیتین علی ظاهرهما دون أي تأویل إجماليٍّ ألزمت کتاب الله بالتناقض الواضح، إذ کیف یکون مستویاً علی العرش وبدون أي تأویل، ویکون في الوقت نفسه أقرب إليّ من حبل الورید بدون أيّ تأویل؛ وتقرأ قوله تعالی:«أأمنتم من في السماء أن یخسف بکم الأرض فإذا هي تمور»{ملک:16} وقوله: «وهو الّذي في السماء إله وفي الأرض إله» {الزخرف:84} فلئن فسّرتهما علی ظاهرهما أقحمت التناقض في کتاب الله  کما هو واضح، ولکنّک عنما تنزّه الله حیال جمیع هذه الآیات عن مشابهة مخلوقه في أن یتحیّز في مکان وتکون له أبعاد وأعضاء وصورة وشکل، ثمّ أثبتَّ لله ما أثبته هو لذاته علی نحو یلیق بکماله وذلک بأن تکل المقصود بکلّ من هذه الصفات إلی الله سلمت بذلک من التناقض في الفهم وسلّمت القرآن من توهّم أيّ تناقض فیه وهذه هي طریقة السلف رحمهم الله.
ألا تراهم یقولون عنها: أمّروها بلا کیف، إذ لو لا أنّهم یؤوّلونها تأویلاً إجمالیاً بالمعنی الّذي أوضحنا لما صحّ لهم أن یقولوا ذلک، إذ لماذا یُمرّونها بلا کیف، ودلالة اللغة والصیاغة العربية واضحة تمنع کلّ لبس أو جهل، سواء في أصل المعنی أم کیفیّته، ولکنّهم أیقنوا أنّ الأمر لیس علی ظاهرها ما تدلّ علیه الصیاغة واللغة بسبب ما دلّت علیه الآیات المحکمات الأخری وهذا تأویل إجماليّ واضح إلّا أنّهم لم یقحموا أنفسهم في تفسیر هذه النصوص بکیفیّات أخری یلتزمونها وهذا هو التوقّف عن التأویل التفصیلي فتأمّل ذلک، فإنّه دقیق وهو الحقّ الذي لا ینبغي أن یلتبس علیک بغیره.(5)
روي عن أمّ سلمة زوج النبيّ ـ رضي الله عنها ـ في قوله تعالی:«الرحمن علی العرش استوی»{طه:5} قالت: «الکیف غیر معقول والاستواء غیر مجهول والإقرار به واجب والجحود به کفر»(6).
قال سحنون: أخبرنا بعض أصحاب مالک أنّه کان عنده جالساً، فأتی رجلٌ فقال: یاأبا عبدالله، مسألة، فسکت مالک ثم أعاد علیه، فرفع رأسه کالمجیب له، فقال له السائل:«الرحمن علی العرش استوی» کیف استواءه؟ قال: فطأطأ مالک رأسه ساعة، ثم رفعها فقال: سألت عن غیر مجهول وتکلّمت في غیر معقول، ولا أراک إلّا امرأ سوء، أخرجوه.
وسأله رجل آخر عن الاستواء فقال یا أبا عبدالله، « الرحمن علی العرش استوی» کیف استوی؟ فما وجد مالک من شيء ما وجد من مسألة، فنظر إلی الأرض وجعل ینکت بعود في یده حتّی علاه الرخصاء ـ یعني العرق ـ ثمّ رفع رأسه ورمی بالعود وقال: الکیف منه غیر معقول والاستواء منه غیر مجهول والإیمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وأظنّک صاحب بدعة، وأمر به فأُخرِج.(7)
وقال القرطبي: کان السلف الأوّل ـ رضي الله عنهم ـ لا یقولون بنفي الجهة ولا ینطقون بذلک، بل نطقوا هم والکافّة بإثباتها لله تعالی کما نطق کتابُه وأخبرت رسلُه.(8)
روی أبو القاسم اللالکائي في کتاب السنّة 3/432 عن محمّد بن الحسن صاحب أبي حنیفة ـ رحمهما الله ـ قال: اتفق الفقهاء کلّهم من المشرق إلی المغرب علی الإیمان بالقرآن والأحادیث الّتي جاء بها الثقات عن رسول الله ـ علیه السلام ـ في صفة الربّ عزّ وجلّ من غیر تفسیر ولا وصف ولا تشبیه وقال الترمذي تعقیباً علی حدیث أبي هریرة في کتاب صفة الجنّة4/597 {2557}: والمذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمّة مثل: سفیان الثوري، ومالک بن أنس، وابن المبارک، وابن عیینة، ووکیع وغیرهم، أنّهم رووا هذه الأشیاء، ثمّ قالوا: تروی هذه الأحادیث ویؤمن بها، ولا یقال: کیف؟ وهذا الّذي اختاره أهل الحدیث: أن یرووا هذه الأشیاء کما جاءت ویؤمن بها ولا تفسّر، ولا تتوهّم،ولا یقال: کیف؟ وهذا أمر أهل العلم الّذي اختاروه وذهبوا إلیه(9).
مذهب الخلف:
ومذهب الخلف الّذین جاءوا من بعدهم هو تأویل هذه النصوص بما یضعها علی صراط واحد من الوفاق مع النصوص المحکمة الأخری الّتي تقطع بتنزّه الله عن الجهة والمکان والجارحة، ففسّروا الاستواء في: «الرحمن علی العرش استوی» {طه:5} بتسلّط القوّة والسلطان، وهو معنی ثابت في اللغة ومعروف.
وفسّروا الید في الآیة الأخری بالقوّة أو بالکرم، والعین بالعنایة والرعایة، وفسّروا الإصبعین في الحدیث بالإرادة والقدرة وقالوا عن حدیث: «إن الله تعالی خلق آدم علی صورته» أنّ الضمیر راجع إلی آدم لا إلی ذات الله، أي أنّ الله خلق آدم منذ اللحظة الّتي أوجده فیه علی صورته وهیئته الّتي  کان یتمتّع بها فیما بعد، فلم یتطوّر من شکل إلی أخر، وقالوا أیضاً: ویحتمل فیه أن یعود الضمیر علی الأخ، المذکور في صدر الحدیث، حسب الروایة الّتي ساقها مسلم في صحیحه وهي: «فإذا قاتل أحدکم أخاه فلیجتنب الوجه، فإنّ الله خلق آدم علی صورته» أي فلیکرم الوجه الّذي هو مظهر لخلقة آدم ـ علیه السلام ـ. أو الضمیر عائد إلی ذات الله تعالی، وذلک کما تدلّ علیه الروایة الثابتة الأخری: «إنّ الله خلق آدم علی صورة الرحمن»، ولکنّ الصورة بمعنی الصفة، أي جهّزه بصفات العلم والإدراک الّتي هي من صفات الله عزّ وجلّ.
واعلم أنّ مذهب السلف في عصرهم کان هو الأفضل والأسلم، والأوفق مع الإیمان الفطري المرتکز في کلّ من العقل والقلب. ومذهب الخلف في عصرهم أصبح هو المصیر الّذي لا یمکن التحوّل عنه، بسبب ما قامت فیه من المذاهب الفکریّة والمناقشات العلمیّة، وسبب ظهور البلاغة العربیّة مقعّدة في قواعد من المجاز والتشبیه والاستعارة.
وهکذا، فقد کان بوسع الإمام مالک ـ رحمه الله ـ أن یقول في عصره لذلک الّذي سأله عن معنی الاستواء في الآیة: الکیف غیر معقول، والاستواء غیر مجهول، والإیمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. إذ کان العصر عصر إیمان ویقین راسخَین،بسبب قرب العهد بعصر النبوّة وامتداد الإشراق إلیه. ولکن لم یکن بوسع الأئمّة الذّین قاموا في عصر التدوین وازدهار العلوم واتّساع حلقات البحث وفنون البلاغة أن یسلّموا ذلک التسلیم دون أن یحلّلوا هذه النصوص علی ضوء ما انتهوا إلیه  من فنون البلاغة والمجاز، خصوصاً وإنّ فیهم الزنادقة الّذین لا یقنعهم منهج التسلیم، ویتظاهرون بالحاجة إلی الفهم التفصیلي، وإن کانوا في حقیقة الأمر معاندین.
والمهمّ أن تعلم بأنّ کلاً من المذهبین منهجان إلی غایة واحدة، لإنّ المآل فیهما إلی أنّ الله لا یشبهه شيءٌ من مخلوقاته وأنّه منزّهٌ عن جمیع صفات النقص، فالخلاف الّذي تراه بینهما خلافٌ لفظيٌّ وشکليٌّ فقط (10).
وفي هذا الصدد یقول الإمام البیهقي في «الاعتقاد والهدایة إلی سبیل الرشاد علی مذهب السلف وأصحاب الحدیث»: وأصحاب الحدیث فیما ورد به من الکتاب والسنّة من أمثال هذا ـ حدیث نزول الله في آخر اللیل ـ من الصحابة والتابعین في تأویله علی قسمین:
1ـ منهم من قبله وآمن به ولم يؤوله ووكل علمه إلى الله ونفى الكيفية والتشبيه عنه.
2ـ ومنهم من قبله وآمن به وحمله على وجه يصح استعماله في اللغة ولا يناقض التوحيد.(11)
وهناک نشاهد قائمة من أسماء العلماء المشهورین وبعض الصحابة قاموا بالتفصیل الإجمالي الّذي لا یشوبه نقص، أو تجسیم، ویلائم التوحید.
فمنهم بعض الصحابة، قال ابن تیمیة: «إنّ جمیع ما في القرآن من آیات الصفات فلیس عن الصحابة اختلاف في تأویلها، ثم قال:« وتمام هذا أني لم أجدهم تنازعوا إلا في قوله تعالى {يوم يكشف عن ساق} فروي عن ابن عباس وطائفة أن المراد به الشدة في الآخرة، وعن أبي سعيد وطائفة أنهم عدّوها في الصفات، للحديث الذي رواه أبو سعيد في الصحيين، ولا ريب أن ظاهر القرآن يدل على أن هذه من الصفات فإنه قال: {يوم يكشف عن ساق} نكرة في الإثبات لم يضفها إلى الله، ولم يقل عن ساقه، فمع عدم التعريف بالإضافة لا يظهر أنه من الصفات إلا بدليل آخر.»(12)
الإمام التابعيّ الجلیل المجاهد، تلمیذ حبر الأمّة عبد الله بن عباس فقد تأوّل قوله تعالی:«خلقت بیدي» فقال: الید بمعنی التأکید والصلة مجازاً کقوله تعالی «ویبقی وجه ربّک».(13)
الإمام المبجّل أحمد صاحب المسند المشهور، فقد روی ابن کثیر في البدایة والنهایة «أنّ الإمام البیهقي روی عن الحاکم عن أبي عمرو بن السماک عن حنبل أنّ أحمد بن حنبل تأوّل قوله تعالی {وجاء ربّک} أنّه جاء ثوابه، ثم قال الإمام البیهقي:وهذا إسناد لا غبار علیه»(14)
الإمام البخاري، فقد أوّل قول النبي ـ علیه الصلاة والسلام ـ :«یضحک الله إلی رجلین» قال:ضحکه: رحمته.(15)
ابن تیمیة رجّح أن یؤوّل الوجه بمعنی الجهة في آیة: «کلّ شيء هالک إلّا وجهه» فیکون المعنی کلّ شيء هالک إلّا ما أرید به جهة الله، ثمّ قال: وهکذا قال جمهور السلف.(16)
الإمام الشوکاني، فقد تأوّل کثیراً من آیات الصفات تأویلاً جلیّاً، منها قوله تعالی: «تبارک الّذي بیده الملک» فقال: والید مجاز عن القدرة والاستیلاء(17) ومنها قوله تعالی: «یوم یکشف عن ساق» فقال: عن شدّة الأمر(18) ومنها قوله تعالی: «ولا تطرد الّذین یدعون ربهم بالغداة والعشي یریدون وجهه» والمعنی: أنّهم مخلصون في عبادتهم لا یریدون بذلک إلّا وجه الله، أي یتوجّهون بذلٍّ إلیه لا إلی غیره.(19)
ومنها قوله تعالی: «واصطنعتک لنفسي» الاصطناع: اتخاذ الصنعة، وهي الخیر تسدیه إلی الإنسان، والمعنی: اصطنعتک لوحیي ورسالتي لتتصرّف علی إرادتي.(20)
ومنها قوله: «إلیه یصعد الکلم الطیّب والعمل الصالح یرفعه» أي: إلی الله یصعد لا إلی غیره، ومعنی صعوده إلیه: قبوله له أو صعود الکتبة من الملائکة بما یکتبونه من الصحف.(21)
الإمام ابن کثیر الدمشقي تلمیذ ابن تیمیّة یؤوّل بعض الآیات المتشابهات؛ منها قوله تعالی: «والسماء بنیناها بأید» أي: بقوّة، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والثوري وغیر واحد.(22)
وقوله تعالى: «وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ» أي: هو الذي خضعت له الرقاب، وذلت له الجبابرة، وعنت له الوجوه، وقهر كل شيء ودانت له الخلائق، وتواضعت لعظمة جلاله وكبريائه وعظمته وعلوه وقدرته الأشياء، واستكانت وتضاءلت بين يديه وتحت حكمه وقهره.(23)
وقوله تعالی: «أن تقول نفس یحسرتی علی ما فرّطت في جنب الله» قال ابن کثیر:أي: یوم القیامة یتحسّر المجرم المفرِّط في التوبة والإنابة ویودّ لو کان من المحسنین المخلصین لله عزّ وجلّ.(24)
والإمام البغوي من أئمّة التفسیر یعمد إلی تأویل آیات الصفات بدون تکییف وتجسیم، هو یقول في تفسیر هذه الآیة: «هو الّذي خلق لکم ما في الأرض جمیعاً ثمّ استوی إلی السماء فسوّهنّ سبع سموات وهو بکلّ شيء علیم» قال ابن عباس وأكثر مفسري السلف: أي ارتفع إلى السماء. وقال ابن كيسان والفراء وجماعة من النحويين: أي أقبل على خلق السماء. وقيل: قصد لأنه خلق الأرض أولاً ثم عمد إلى خلق السماء.(25)
ویقول في آیة « تجري بأعیننا جزاء لمن کان کفر» أي بمرأی منا، وقال مقاتل بن حیّان: بحفظنا، منه قولهم للمودّع: عین الله علیک، وقال سفیان: بأمرنا.(26)
وأیضاً الإمام القرطبي یؤوّل آیات الصفات فیما یلي:
«وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ». قال عكرمة: إنما قال هذا فنحاص بن عازوراء وأصحابه، وكان لهم أموال فلما كفروا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قل ما لهم، فقالوا: إن الله بخيل، وید الله مقبوضة عنا في العطاء، فالآية خاصة في بعضهم. وقيل: لما قال قوم هذا ولم ينكر الباقون صاروا كأنهم بأجمعهم قالوا هذا. وقال الحسن: المعنى يد الله مقبوضة عن عذابنا. وقيل: إنهم لما رأوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد كان يستعين بهم في الديات قالوا: إن إله محمد فقير، وربما قالوا: بخيل، وهذا معنى قولهم: «يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ» فهذا على التمثيل كقوله: «وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ» ويقال للبخيل: جعد الأنامل، ومقبوض الكف، وكزّ الأصابع، ومغلول اليد، واليد في كلام العرب تكون للجارحة كقوله تعالى: «وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً» وهذا محال على الله تعالى. وتكون للنعمة، تقول العرب: كم يد لي عند فلان، أي كم من نعمة لي قد أسديتها له(27)
«وجاء ربّک والملک صفاً صفاً» أي أمره وقضاءه؛ قاله الحسن. وهو من باب حذف المضاف(28)
ما ذکرنا من تأویل هؤلاء الأعلام، الّذین بهم الثقة وعلیهم الاعتماد في شتّی العلوم من الحدیث والقرآن وغیرهما، یکون من أکبر الدلائل علی أنّ التأویل الّذي لا یؤدّي إلی النقص في ذات الله، لا یلام علیه، بل هو المستحسن في کثیر من المواضع؛ وبین هذا والتأویل المذموم فرقٌ کبیر، لا یقف علیه إلا من أمعن النظر ودقّق الفکر وعلی هذا المنوال درج سلفنا الصالح ـ رضي الله عنهم ـ کما شاهدنا في هذا المقال. ـ وآخر دعوانا أن الحمدلله ربّ العالمین ـ

الکاتب:مجتبى أمتي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ الملل والنحل للشهرستاني بتصرف/ ص 84 ـ 85/ دار الفکر
2ـ الملل والنحل بتصرف/ص87ـ88
3ـ نقلاً عن العقیدة الإسلامیّة للعزّوز بشرح محمد بن أحمد المکّي/ص89/ دار البشائر الإسلامیّة
4ـ العقیدة الإسلامیّة للعزّوز/ص89
5ـ کبری الیقینیّات الکونیّة للبوطي/ ص138ـ139ـ140/ دار الفکر
6ـ نقلاً عن الدولة الزنکیّة للصلّابي/ص454/دار ابن کثیر، وقال في هامشه:هذا لم یرد في شيء من الکتب الستّة ولا المسند وإنّما ورد في کتب أخری رواه اللالکائي رقم663 موقوفاً علیها
7ـ الإمام مالک بن أنس إمام دار الهجرة/عبدالغني الدّقر/ص292ـ293/دار القاسم
8 ـ تفسیر القرطبي،2/219 نقلاً عن العقیدة في ضوء الکتاب والسنّة1/206لعمر سلیمان عبد الله أشفر
9 ـ نقلاً عن العقیدة الإسلامیّة للعزّوز/ص90
10ـ کبری الیقینیّات الکونیّة للبوطي/ص 140ـ141
11ـ الاعتقاد والهدایة إلی سبیل الرشاد علی مذهب السلف وأصحاب الحدیث/ ص92/ دار الکتاب العربي
12ـ مجموع الفتاوی لابن تیمیّة6/196 /دار الکتب العلمیّة
13ـ فتح القدیر للشوکاني،1272، دار المعرفة
14ـ البدایة والنهایة، 10/327، منشورات مکتبة العارف
15ـ فتح الباري،6/31، دار إحیاء التراث العربة
16ـ مجموع الفتاوی لابن تیمیّة،2/18 ، دار الکتب العلمیّة
17ـ فتح القدیر للشوکاني، ص1510، دار المعرفة
18ـ فتح القدیر للشوکاني، ص421، دار المعرفة
19ـ فتح القدیر للشوکاني، ص909، دار المعرفة
20ـ فتح القدیر للشوکاني، ص1510، دار المعرفة
21ـ فتح القدیر للشوکاني، ص1207، دار المعرفة
22ـ تفسیر ابن کثیر، 4/254، دار المعرفة
23ـ تفسیر ابن کثیر،2/130، دار المعرفة
24ـ تفسیر ابن کثیر،4/66، دار المعرفة
25ـ تفسیر البغوي،1/30، دار الکتب العلمیّة
26ـ تفسیر البغوي،4/237، دار الکتب العلمیّة
27ـ الجامع لأحکام القرآن للقرطبي، 6/238، مؤسّسة التاریخ العربي
28ـ الجامع لأحکام القرآن للقرطبي،20/54، مؤسّسة التاریخ العربي