لما رأيت آية الحجاب أعجبت بها أيما إعجاب واقتنعت وانشرح صدري لما حوى من حكم وتبيين ومنهجية وعمق وشمول ودقة وظرافة وباثولوجيا وغير ذلك مما لا يسعه الوصف.

كان «زهير بن أبي سلمى» الشاعر الحكيم الذي عاش في الجاهلية وما عاشت الجاهلية فيه يَمدح مِن هو من أجود العرب «هرم بن سنان»، فحلف هرم هذا أن لا يمدحه زهير إلا أعطاه، ولا يسأله إلا أعطاه، ولا يسلّم عليه إلا أعطاه؛ ولكن زهيراً مع كل ذلك قال في مدحه:
سألنا فأعطيتم وعدنا فعدتم
ومن أكثرَ التسآلَ يوماً سيُحرَمِ
نعم! هذا شأن كل باب من أبواب الدنيا، فإنه سيُغلَق في يوم من الأيام أو ليلة من الليالي أمام طارقه؛ مهما كرُم صاحبه وكثُر رماده وجبُن كلبه؛ إما لنفاد جوده، أو لنفاد ما عنده، أو لخوف نفاده؛ ولكن هناك باباً آخر يختلف عن كل باب، هو باب لن يخيب من دقّه، ولن يخسر من أتاه، ولن ينفد ما خلفه، ولن يملّ صاحبه من كثرة الطرّاق، ولن يعجز عن كثرة مطالبهم، هو مورد عذب لن يظمأ وارده ومصدر طاقة لن يكبو من اتصلت به أسلاكه، ألا هو باب الله، وهكذا كل باب ينتهي وينتمي إليه، والقرآن باب الله وشريعة الله بابه، والمسجد والقبلة والسماء وليلة القدر والدعاء من أبوابه، والقرآن من أعجبها وأعظمها، باب فريد ووحيد فردانيةَ قائله، ووحدانية مُنزله، كلام لا ككلام، كتاب ما زاده مرُّ العصور وكرُّ الدهور وتقدمُ العلوم وتنوع الطبائع واختلاف الأذواق وتشعب الفنون إلا جدّةً وطرافةً وجمالاً وفضلاً وعظمةً في النفوس ومكانةً في القلوب وحظّاً للنفوس وارتياحاً واطمئناناً للأفئدة وقناعةً ومتعةً للأخلاد، كتاب تناوله فقهاء اللغة فزوّدهم وعلمهم وأتحفهم، وأهل الموسيقى فلاطف أسماعهم ولعب بأوتار قلوبهم، وأهل البلاغة فأغنى كتبهم، والعرفاء فأحرقهم وأثلجهم وأوقفهم وحرّكهم وطمأنهم وأقلقهم؛ ولكنه في كل حال أسعدهم، انقطع إليه العلماء فزيّنهم وأعلاهم وأنطقهم، وماهَنَه علماء النفس والاجتماع فحلّ عقدهم ووسّع آفاقهم ورسم لهم مناهج وأصّل لهم أصولهم وقواعدهم، هو بحر بلا شاطئ ومَنجم بلا نفاد وجمال فوق الجمال، لن تحيط به الحدود، ولن تُدرَك أغواره وان تُنال أعاليه، إنه أنطق أشدّ أعداءه فقال في وصفه: «والله، إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يُعلى، وإنه ليحطّم ما تحته»(1)
ولو رحت أستقصي مشاعري وحظوظي من هذا الكتاب لبالغتُ وما بلّغتُ، وأطلتُ وما أكملتُ، وأمللتُ وما مللتُ، وأقنعتُ وما قنعتُ، فأقتصر بهذا اليسير وأدعو كل منصف سليم الذوق أن يأخذ حصته منه على سعة وعاءه، وترامي أطرافه، وعظم مراميه.
إنني رغم بضاعتي المزجاة كلما أردتُّ أن أجري القلم في موضوع مما تصدى له القرآن دار رأسي وحُيّرت في الاختيار وكنت كمن دخل متحفاً فيه من التحف والأعاجيب والآثار والنوادر ما لا تغنيك إحداها عن أخواتها، ولا يُملّ التحديق فيها، ويستحيل الاستمتاع بجميعها؛ فآخذ منها مضطراً لؤلؤة واحدة وأبدأ بتقليبها ظهراً لبطن، وآخذ حظّ بصري وقلبي حسب نصيبي من الاستطاعة والظرافة والإمعان والتركيز؛ ثم يحبّب إليّ أن أبثّ هذا الشعور الفذّ، وهذه المتعة التي لا
تدانيه متعة، وهذا الارتياح الذي أخذ يتمشّى في أوصالي.
هذا شأني معكم اليوم، أريد أن أعرض عليكم اليوم جوهرة من جواهر القرآن؛ ولست معاذ الله أعلو بها؛ بل أعلو بها.
كانت تتناهى إلى سمعي أسئلة عن الحجاب: على الرجال أن يغضوا من أبصارهم ويحفظوا قلوبهم وفروجهم…، الحجاب ليس يعني العفاف، فالحجاب شيء والعفة شيء…، الحجاب ليس مقياساً قويماً للطهارة أو الدعارة…، التقصير والتفريط يعود إلى الرجال الذين يمدون أبصارهم إلى محاسن النساء، ويترصدونهن في فوّهات الطرق…، هلمّ جرّاً ما إلى ذلك من زخارف القول التي تدور على ألسنة العامة، وتعبث بعقولهم وتغسل أدمغتهم وليست مع الأسف تسير على ناموس مطرد، حتى فاجأتني آية الحجاب(2)، فإذا بها تدمغ كل ما أثير من الشبهات في بضع كلمات، وتُهدي فوق ذلك معاني عظاماً للنفوس والقلوب المضطربة فتجعلها مطمئنة.
لما رأيت آية الحجاب أعجبت بها أيما إعجاب واقتنعت وانشرح صدري لما حوى من حكم وتبيين ومنهجية وعمق وشمول ودقة وظرافة وباثولوجيا وغير ذلك مما لا يسعه الوصف.
لما تلوت قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا» أثلج صدري وبلّ غليلي وشفى عِيّي وأساغ غصّتي، وما أعجب وما أوسع ما تضمنته هذه الكلمات القليلة من المعاني الجمّة والإشارات الخفية الدقيقة المتقَنة التي لا يتفطن لها إلا الظرفاء المحنّكون.
تعالوا نبدأ بدراسة هذه الآية كلمة كلمة ونستنبط قسطا يسيرا من معانيه.
يبدأ الله الحكيم الآية بقوله: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ…» ثم يأمره بالقيام بما تضمنت الآية من الأحكام، وفي الابتداء بمخاطبة النبي –صلى الله عليه وسلم- حكمة خفية وإرشاد لطيف يظهر للمتأمل، وهو أن على الداعي أن يبتدئ بتطبيق دعوته على نفسه، –أول ما يبدأ-، فأول خطوة يتخذها الداعي إلى التغيير هو تغيير النفس، ولا يتصور تغيير بيئة بأكملها قبل تحول في النفوس، كيف وكل نفس لبنة في بنيان المجتمع، ومن المستحيل سلامة عضو من الأعضاء دون سلامة كل خلية من الخلايا، وهل السرطان المرض الكبير الفتاك الذي تنبو عنه الأسماع إلا حدوث خلل -ربما يكون بسيطًا- يجعل الخلايا السليمة خلايا سرطانية؟! وكذلك كل بيئة ومجتمع. يقول تبارك وتعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ» رعد11. ونعم ما يُقال: «كن أنت التغيير الذي تريد أن تراه في العالم!»، فهل يعقل بالله عليكم إصلاح مجتمع قبل إصلاح نفوسه؟!
إن أكبر نصيحة يمكن أن تهدى إلى كل من ينشط في مجال الدعوة هو أن يقال له «احذر أيها الداعي أن يجد المدعوون في حياتك ما يخالف دعوتك»، وقد رمز إلى هذه النكتة في الآية بالابتداء بمخاطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو أسوة الدعاة وأكبر داع إلى الخير أظلته الخضراء وأقلته الغبراء.
سمعت قصة يحلو لي ذكرها هنا: كان يشاهد الأب التلفاز فجاءه الابن وقال: يا أبي! أريد منك أن تلعب معي! كان الأب متعبًا فرأى أن يُعلّل الابن بشيء عله يستريح ساعة ثم يلعب معه، فرأى في الصحيفة خريطة العالم، فأخرجها بالمقراض ثم مزقها كل ممزق ثم نثرها بين يديه وقال: سألعب معك بعدما قمت بالربط بين هذه القطع ورددتها إلى حافرتها. ثم عاد يواصل مشاهدة التلفاز زاعما أن القطع ستلهي الابن لساعات؛ فإن الابن لا يعرف شيئا عن خريطة العالم؛ فلم يلبث هنيهة حتى سمع صوت الطفل يصرخ: ها أنا قد أصلحتها! فدُهش الأب ونظر فإذا بالخريطة كأولها، فأخذها وفكر هنيهة، فلم يتفطن إلى الطريقة التي استعملها الطفل فسألها معجَبا بذكاءه: كيف استطعت أن تنضّد قطع هذه الخريطة الممزقة وتعيدها إلى ما كانت؟! فأجاب الطفل بدلال وزهو: أنا لم أهتم بالخريطة وإنما قمت بإصلاح الإنسان؛ تعجب الأب! أي إنسان؟! فقلّب الورقة فإذا في خلفها صورة إنسان قائم على قدم وساق. حينئذ علم الأب أن العالم لا يصلُح إلا بعدما أُصلح الإنسان، وجُمع شتاته، وقُوّم عوجه، وجُعل الاعتناء بشأنه في رأس القائمة.
نعود الأن إلى الآية ونرى أن مخاطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- يليها قولُه: «قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ…»
إن في تقديم الأزواج والبنات كذلك إشارات: أولها: الإشارة إلى فضلهن وشرفهن. ذكر ابن كثير في تفسيره: «يقول تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم تسليما، أن يأمر النساء المؤمنات -خاصة أزواجه وبناته- لشرفهن».(3) فهذا الحكم الذي سيُذكر في الآية ليس كغريمة تُفرض على عامة المسلمين فرضًا؛ ثم يُسامح خاصتهم فيها كما نشاهد ذلك في معظم الحكومات الحالية؛ بل كلها أن كثيرًا من الأحكام لعامة أهل البلاد وليس لخاصتهم، وللخاصة خيارات وميزات ليست للعامة؛ بل الأحكام في الشريعة الإسلامية مناهج للكمال وطريق سُوًى -للتقرب من الله- يستوي بالنسبة إليه كل مسلم؛ بل كل إنسان، لا يُختص به أحد قبل أحد، فالأكرم في الإسلام هو الأشد تعهدًا واهتمامًا بهذه الأحكام کائنا من کان. «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ﴿۱۰﴾ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴿۱۱﴾ « تحريم.
فامرأة نبيين -عليهما السلام- تدخلان النار ولا تنفعهما أقوى نسبة -النسبة الزوجية- إذ فاتتهما النسبة والاتصال بمعايير السعادة عند الله التي فُصّلت في الشرائع الإلهية تفصيلا؛ ومن ثم امرأة فرعون لم تضرها النسبة إلى فرعون أكبر طاغوت على مر العصور.
فأمرُ الله نبيَّه بإيصال هذا الحكم أولا إلی زوجاته وبناته يدل على شرفهن من جانب، إذ الأحكام الشرعية هدية تُهدى وليست غريمة تُفرض؛ فأولى الناس به أقرب الناس إلى المُهدي، ومن جانب آخر لقد بدأ تعالى بنساء الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبناته في الأمر بالحجاب الشرعي ليكنّ قدوة لسائر النساء، والدعوة لا تثمر إلا إذا بدأ الداعي بها في نفسه وأهله وبيته، ومن أحق من بيت االنبوة بالتمسك بهذا التوجيه الرشيد؟!(4)
قال تعالى: «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا» طه132، وقال: «قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا» تحريم6.
ثم نكتة لطيفة أخرى أنا أراها كامنة في الأية وهي أن تقديم النساء على البنات تشير إلى رفعة مكانة الأمومة وأولويتها بالاعتناء وبالطبع فضلِها في التأثير والمساهمة في عملية إصلاح المجتمع.
ثم أردف تعالى ذكرَ الأزواج والبنات بذكر نساء المؤمنين فقال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ…»
والحكمة التي تظهر لي في هذا النسق هي إشراك نساء المؤمنين في هذا الشرف العظيم أولًا، الشرف الذي يراه المتعصبون، ضيّقوا الآفاق، المتفيهقون من غير إمعان وإشراف حرجًا وتخلفًا وثقلًا جُشّمه المسلمون تجشيما. والنكتة الثانية -التي استنبطتها في الآية وهي نكتة لطيفة وجليلة في آن- هي أن كلمة «نساء» أضيفت إلى «المؤمنين»، وهذه الإضافة تدل على أن المخاطب

لهذا الحكم السديد نساء المؤمنين عامة…، أعيد مرة أخرى: «نساء المؤمنين»، فنساء المؤمنين هن المخاطبات للآية، والمؤمن حقا لا يتزوج إلا مسلمة مؤمنة؛ وإن تزوج من غير مسلمة لم يسمح إيمانه وما رضيت غيرته أن تتنازل عن قيم دينية يرى فيها رضا الرب وفوز الأبد، فالعجب كل العجب ممن يجهدون أنفسهم لإقناع نساء غير مؤمنات، تحت رجال غير مؤمنين، في بيئة غير مسلمة ولا مؤمنة بأن الحجاب أمر ضروري لصيانة قيم المجتمع، وهم يُنكرون مصدر هذه القيم، فهم في واد والمسلمون في واد، وهذا كأن تقول لمن ينكر نسبته إلى أبيه: التزم هذه النصيحة من أبيك المشفق عليك وتيقّن أنها ستنفعك في حياتك! فكيف تتمنی أن يلقي إليك بالا ويعيرك سمعًا وهو ينكر أبوة أبيه، أو أن توصي عامة الناس بما يوصى به الرياضيون الممتازون، فتقول لهم: لا بد على الأقل من الممارسة ساعتين يوميا للاستعداد البدني والتخلص من الدسوم الضارّة وتفكيك العضلات.
فهذه الوصفة للرياضيين الممتازين ومن الطبيعي أن لا ينقاد لها عامة الناس، ولا يتخذه أصحاب اللحوم والشحوم كطريقة لحياتهم، ويأبوا العمل بها ويعتبروها حرجا ثقيلا.
وكذلك هذه الوصفة المهداة في الآية ترحب بها النسوة المؤمنات اللاتي تربين في بيئة مؤمنة، وتأباها غيرهن أكثر ما يكون؛ ولكن إنكار فضلها وتأثيرها من قبل أي شخص لا ينقص من شأنها شيئا، فكلام الله يعلو ولا يُعلى عليه.
ثم يبين الله الوصفة ويقول: «يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ».
أمر الله نبيه بأن يأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين بإدناء الجلابيب عليهن، وقد قيل في تفسير ذلك أقوال عديدة، فأعرض عليكم بعضها: أن يغطين أجسامهن ورؤوسهن وجيوبهن – وهي فتحة الصدر من الثوب – بجلباب كاس(5)، وقيل: هو ثوب أصغر من الرداء وأكبر من الخمار والقِناع (6)، وقالوا: يغطين وجوههن وأبدانهن بملاحفهن إذا برزن لحاجة ، و {من} للتبعيض فإن المرأة ترخي بعض جلبابها وتتلفع ببعض(7)، ولكن القرطبي يقول الفصل: وهو ثوب أكبر من الخمار، وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنه الرداء، وقد قيل: إنه القناع، والصحيح أنه الثوب الذي يستر جميع البدن(8)، وكذلك يقول الصابوني(9)، ولا نريد أن نسهب في تفسير نوع الحجاب أكثر من هذا، فنكتفي بهذا الوجيز الكافي.
ولكن تبقى نكتة أرى من اللازم الإشارة إليها؛ فبها تظهر أن الأحكام في الإسلام تُشرّع بإحكام وتلاحَظ في تشريعها جميع الجوانب، وهي أن الله سبحانه وتعالى نهى في الآية السابقة عن إيذاء المؤمنات ثم أتبع النهي عن أذى المؤمنات بأن أمرهن باتقاء أسباب الأذى؛ لأن من شأن المطالب السعيَ في تذليل وسائلها كما قال تعالى: « وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا» الإسراء19. وقال أبو الأسود:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها
إن السفينة لا تجري على اليبس
وهذا يرجع إلى قاعدة التعاون على إقامة المصالح وإماتة المفاسد، وفي الحديث: «رحم الله والداً أعان ولده على بره». وهذا الحديث ضعيف السند لكنه صحيح المعنى؛ لأن بر الوالدين مطلوب، فالإِعانة عليه إعانة على وجود المعروف والخير(10).
ثم بعد ذلك يبين الله تبارك وتعالى الحكمة الأصلية والأساس لتشريع هذا الحكم الدقيق الجميل فيقول: « ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ»
الله أكبر! ما أجمل هذا التعليل الدقيق العميق وهذا الباثولوجيا!
فالحجاب كما وصفه الله تعالى شعار المرأة المسلمة المؤمنة، وزيها الخاص الذي بها تُعرف وبها تُميّز عن غيرها؛ فلباس المرأة ترسل رسالة إلى أدمغة الناظرين، ولا شك أن هذه الرسالة تستلمها أدمغتهم كاملة واضحة مفصلة؛ وكيفية وهيئة لباسها هي التي تعين تفاصيل هذه الرسالة، فإذا تكونت صورة المرأة -التي تبعث بملابسها كوامن النفوس- على شبكية العين، ثم انعكست على الدماغ وتمت معالجة الصورة المستلمة ورسالتها التي تحملها أرسلت الخلايا الدماغية الرسالة التي تحمل الرد المنشود لهذه الصورة المستلمة، فإن كان الناظر مؤمنا متقيا يخاف الله غض من أبصاره وأطرق رأسه ثم حوقل واستغفر واسترجع، وإن كان غافلا أو فاسقا أحدّ البصر وحدّق النظر في المرأة وأخذ منها حظ بصره ونفسه فضل وأضل وضلت وأضلت.
وإن كانت المرأة مؤمنة متقية ملتزمة أدنت عليها من جلبابها أرسلت إلى عيون الناظرين رسالة أخرى تختلف تماما: أنا امرأة مؤمنة، من أسرة مؤمنة تغار علي، أتبع الحمية وأبعد نفسي عن مظان المرض والفساد، هذه الملابس الواسعة تعبر عن مستوى حميتي وتصلبي وحمية أسرتي وتصلبها، أنا أعز من أن أجعل نفسي فريسة لعيونكم، خلوا طريقي، أنا محتشمة؛ ولا ريب أن الرسالة تستلمها الأدمغة وتحمل أصحابها على الخضوع أمام أحكامها الصارمة الفخمة.
فهل من المعقول أن يلبس الضابط أو الشرطي كسوة المتسولين ثم يجر رجله وذيله في الشارع جرّا، تاركا مسدسه، في إحدى يديها ركوة وفي الأخرى عصا، وعليه خلقان بالية وخرق ممزقة ثم يوقف سيارة ويقبض على مجرم، وإن عارضه أو خاصمه أو شتمه أحد ألقى القبض عليه بحجة أنه لم يحترم موظف الحكومة ومجري الدستور، والإساءة إليه إساءة إلى الحكومة والنظام والأمن؟!
وكذلك المرأة السافرة ليس لها أن تتمنى أن تحظى باحترام وضمانة تحظى بها المرأة المتحجبة المتقنعة، وأن تكون صاحبة الصون مثلها.
فالحجاب من أدنی حده إلى أقصی حده يرسل رسالة توافق كمّه وكيفه؛ فالمرأة التي لبست التنورة القصيرة ووسروالا رقيقا يصف ما تحته، وبلوزة صغيرة لا تستر ذراعيها، ولم تستر رأسها وتركت ضفائرها تتأرجح من جانب إلى جانب تلهم الناظرين أنها لا ترى بأسا في أن يحدقوا النظر فيها؛ بل تستمتع بأنظارهم وإعجابهم، فكل شيء يُعرض لا يُعرض إلا ليلفت الأنظار وتأسر القلوب، وإن لم يكن كذلك فلم تبذل الجهود في تجميل المباني والسيارات والأطعمة، وليس الإنسان خارجا عن نطاق هذا القانون المطرد الذي لا ينكره عاقل!
كنت يوما في حافلة حافلة بصنوف الناس، فرأيت بينهم شابة أظهرت جمالها على الناس ولم تستر منه إلا البعض. فرأيت أن أحد السائقين للحافلة كلما سنحت له فرصة تقرب منها وأظهر أنه يريد إكرامها بالماء أو الشاي أو شكولاتة أو قهوة -هداك الله! لم لا تكرم شابا ممتلئا ضخما يكتب هذا المقال أو لم لا تكرم الشيوخ والعجائز وهم أحق ببرك والله؟!- وكانت الفتاة أبية قوية تطردها في كل مرة بأشد من المرة السابقة، ولكن السائق الشاب أبيّ كذلك يأبى إلا الوصال؛ وكيف يمكن لجائع شره يشاهد الطعام، ويستشم عبقه، وتعبث بعقله ألوانه وجودته أن يمتلك نفسه ويكبح شهوته الجامحة؟!
ثم لما نزلت الشابة ونزل السائق ليعطيها أمتعتها من صندوق الحافلة أخرج من كيسه ورقة -فيها رقم الاتصال- ويلح عليها كسائل حقير لا يترك عتبة الباب أن تقبلها، وهي كدأبها في السابق تطردها عنها أبية غاضبة مستبشعة! ليتني كنت أستطيع أن أقول لها: يا أختي الكريمة! مبروك عليك تصلبك ومنعتك وعزتك! ولكن لماذا لبست لِبسة تجعلك مطمع شهوات العابثين الأنذال؟! ألا ترين أن الجو ممتلئ بالفيروسات والطفيليات فلم تركت الكمامة الصحية في هذه البيئة المليئة بالأمراض؟! أما شاهدت الممرضات كيف يدخلن الغرف التي فيها المرضى؟! لم لا تصون بشرتك عن الأشعة الضارة التي تنتشر في كل مكان؟! لم تظهرين عكس ما تضمرين؟! والله يا أختي لو أحسنت الحجاب أحسنت إليك أولا وإلى الآخرين ثانيا! هداك الله يا أختي كان بإمكانك أن تتركي النفوس المطمئنة على حالها مطمئنة وادعة ولا تهيجي النفوس الضارية؛ ولكنك بعثرت على هؤلاء أمنهم وأقلقتهم وهيجت في أولئك ضراوتهم وهمجيّتهم، فجشّمت نفسك دفع المفترسين وجمشّمتهم ضرم الطوى.
ليت النساء لبسن زيّا وصّاهن الله به، -ولا أرى أن العقل والمشاهدة والتجربة تجوّز غير ذلك- فيميزهن هذا الزي ، ويجعلهن في مأمن من معابثة الفساق؛ فإن معرفتهن وحشمتهن مما تلقيان الخجل والتحرج في نفوس الذين يتتبعون النساء لمعابثتهن(11)
ثم يختم الله الآية بأجمل وأحسن وأنسب خاتمة: «وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا». إن الله يغفر لمن كان جاهلا بهذا الحكم السديد الرشيد، وهو رحيم بالنساء إذ سترهن، ورحيم بعباده حيث يراعي مصالحهم حتى الجزئيات منها؛ فالحجاب رحمة وليس كلفة، وكذلك كل حكم في الإسلام يثقل على النفوس الضعيفة والخاضعة للشهوات التي تجهل أنه «مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».
أعتذر من القراء الكرام إن ظنوا أني قد أسهبت في الكلام؛ فليعلموا أني قد ضربت صفحا عن الكثير مما كان يجيش في صدري ويجول بخاطري، وكذلك لم أتطرق إلى ذكر الكثير من تجاربي وتجارب من يعتد بهم من الناس كان بإمكاني أن أذكرها؛ ولكن تركتها خوفا من الإطالة.
وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ؟!
………………………………..
المصادر:

1-المستدرك على الصحيحين للحاكم/ كتاب التفسير/ باب تفسير سورة المدثر/ روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما-
2- تفسیر السعدي
3- تفسير ابن كثير
4- قبس من نور القرآن الكريم للصابوني
5- في ظلال القرآن لسيد قطب
6- التحرير والتنوير لابن عاشور
7- أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي
8-تفسير القرطبي
9- قبس من نور القرآن الكريم للصابوني
10- التحرير والتنوير لابن عاشور
11- في ظلال القرآن لسيدقطب